بداية المُنتهى التخطي إلى المحتوى الرئيسي

المشاركات


رصيف الانتظار

ما موقفنا من الانتظار؟ جرّني الحديث الطويل هنا وتقليب الأبيات وتأملها بيت شعر للبردوني قال فيه: هذا الذي سميته منزلي كان انتظاراً قبل أن تدخلي قد يكون الانتظار صعباً وقد يكون رمادي اللون ومبهم الحال، لكن بقدر كل ذلك التشوّش يكون أمل اللقاء، وبقدر كل هذا الشتات الذهني والعاطفي يكون الصبر.. تغنياً بالمثل الشعبي "من صبر نال". إلا أن للانتظار حلاوة، ربما تكون حلاوةً لاذعة إن كان انتظاراً بلا موعد، لكن ماذا إن كان انتظاراً إلى أجلٍ مسمى؟ مؤقتاً لنهايته مذ بدأ؟ أيكون أخفّ وطأة على النفس المتلهفة أم يكون أصعب وأخنق؟ بظني أن وضوح النهاية أسلى للنفس، وآكد للبلوغ وأشرح للخاطر وربما.. يواسي المحزون كلما انقطع به الرجاء. أما الانتظار إلى أجل غير مسمى رغم ما فيه من اليأس والضيق، إلا أن -بحمد الله- فيه من السعة والأمل، فإن كان أمد الانتظار غير واضح ففي ذلك ما يبعث في النفس كل دقيقة ما يجدد أملها، فيجول في الخواطر "ربما الآن ينتهي كل هذا!"، فيعود الغائب، ويشفى المريض، ويخرج من توارى خلف الظلال لسنين، "ربما الآن وفي هذه اللحظة تفرج!" بهذا الأمل واليقين بكرم الله وعونه يعي

ليلة شتوية

في ليلةٍ شتويّةٍ باردة قال عنها خبراء الطقس أنها قد تكون أخفض درجة حرارة تمرّ على المدينة.. تحضَّرَت وارتدت ثياب النوم الثقيلة، اضطجعت وتدثرت بغطاءٍ من فرو دافئ، من فوقه غطاءٌ حُشي بالاسفنج السميك. نسيت أن تغلقَ النافذة، لكن كان من الصعب عليها أن تتخلى عن كل هذا الدفء لتواجه الهواء البارد الجاف؛ لتغلق مصدره.. عقلها المرتجف رفض الفكرة واقترح عليها أن تتكور حول نفسها وتَدُسَّ رأسها تحت طبقتي الغطاء وتتجاهل النافذة، ففعلت. بعد أن هدأت تحت غطائها وبدأ الجو يصبح أدفأ، أخذت تفكر.. بحياتها، بالواقع الذي تواجهه كل يوم.. باليوم الذي أنهاها قبل أن تنهيه، بنوبة البكاء والحزن ظهيرة اليوم.. بأمنياتها المتراكمة فوق رفوف الأحلام.. كل صباح ترفع رأسها لتنظر إليها.. هي أمنياتها.. لكن لا ارتباط لها بتلك الأمنيات سوى برغبةٍ دفينة في روحها؛ روحها اللاهثة مدعيةُ السعادة، التي مضى عليها الزمان وما زادها إلا ضعفاً.. يطول تفكيرها.. تخمن أنها قد أمضت نصف ساعة منذ أن خلدت للنوم.. تخرج رأسها من بين الأغطية لتتأمل السقف، تتنهد ثم تهمهم قائلة: "لا فائدة من النوم مبكراً" متظاهرةً حول الحزن الذي ألجأها للن

متلازمة النهايات السعيدة

عند قراءة رواية أو عند سماع قصة حب تراثية، أو حتى عند مشاهدة فلم أو مسلسل (إسلامي وفق الضوابط الشرعية طبعاً)، ألا تلاحظون شيئاً مشتركاً في أغلبها؟ من خلال مشاهداتي وقراءتي وجلوسي الطويل لسماع قصص الأكبر سناً منذ طفولتي، حتى عُرف عني حبي للقصص، فكلما بدأ أحد الكبار بسرد قصة (أياً كانت) تناديني أمي: "لبنى تعالي اسمعي القصة!" وتؤكد للراوي بصوتٍ منخفض "لبنى تحب القصص".. ربما لهذا أنا أحكي القصص؟ لأذيقكم المتعة التي تلذذت بها؟ على كلٍ.. عندما نكتب قصة فإننا غالباً نتبع منهجاً معيناً لتسلسل الأحداث، وقد يختلف من قصة لأخرى، لكن على الأغلب تبدأ كل القصص بوتيرةٍ شبه هادئة وتعريفية للمكان والزمان والشخصيات، ثم تتسارع الأحداث وتكثر المشكلات يميناً وشمالاً وهذا ما نسميه بالعقدة، ثم بوتيرةٍ أبطأ وأحياناً أغبأ.. تفك العقدة، ثم في النهاية تختم القصة بسعادة. توجد نهايات حزينة لكن في الغالب تكون سعيدة لأن ولهذه المرة فقط (الجمهور عايز كده)، وأستطيع تبرير ذلك اقتباساً من نصٍ قرأته: "في الحياة الواقعية ما يكفي من النهايات الصعبة وغير المحببة وغير المتوقعة، لذا على الأقل.. في عالم

ضباب العمر

يقول عبدالرحمن منيف: ‏ ”کنا نهرول نحو الأيام الآتية، كنا نريدها أن تسرع! أن تنطوي! إذ كان هدفنا أن نكبر بسرعة، أما الآن؛ نريد أن نهدئ السرعة أن نتأمل.. أن نقارن.. لكن الأيام لا تترك لنا مجالاً، وهكذا يسيطر علينا الشعور بالأسى والشجن“ ثم يختتم حديثه بسؤال ذو شجون.. سؤال عزيز على الأدب والفلسفة أن تجيبه: ”كنا نركض من أجل ماذا؟ والآن.. نحاول أن نبطئ من أجل ماذا أيضاً؟“ عندما مرّ بي هذا النص القصير لمنيف، شعرت بأنه يحدثني أنا بشكل خاص، ثم بعد أيام من التأمل.. ربما منيف يحدث العالم من خلال نفسه عبر هذا الوصف، فكلنا -إبتداءً منه وانتهاءً بأطفال اليوم- نركض نحو الغد، بحماسٍ غير مبرر، وبتفاؤلٍ غير واضح الوجهة! لماذا مثلاً لم نخف أن نكبر عندما كنا صغاراً؟ لماذا كنا جميعاً نتفق بأننا نريد أن "نغدوا كباراً"؟ "كبار" ماذا كانت تعني هذه الكلمة لنا؟ الاحترام؟ الحرية؟ المحبة؟ الحلويات؟ ما الذي كان يجذبنا بالضبط لنتفق كلنا على اختلاف بيئاتنا وتراكيب شخصياتنا بأن .. نتمنى أن نكبر؟ أفكر بعمري الآن.. أنا في العشرين من عمري.. ورغم أن سنّي زاخر بالتجارب.. وممتع.. ومتخبط حدّ الانشغال عن ح

سخي الروح

وكان دائماً يأخذ الحياة على محمل الجد والكبد الشديد، ولا يرى إلا أصعب الطرق وأطولها، ولا يتأفف ولا يشتكي من ذلك، لأنه كان يعلم في قرارة نفسه أن لا شيء ألذ من بلوغ الغاية بعد أن أخذ ذلك السعي شيئاً ثميناً منه، كان يؤمن إيماناً شديداً بالأخذ والعطاء. وكان يحب الصحراء؛ كأن يرى أهله في التراب المتراكم على مد البصر، يمضي الليالي في الفيافي مستأنساً بأمواج الرمال هادئةً نفسه بينها، مرتقباً أيام الإجازات -طويلها وقصيرها- ليهرب بأخف ما يمكن من صخب المدينة إليها. بعد أن أوسع الله له في رزقه وأكرمه بوفرة المال والبنين؛ ضرب الأرض في أحب بقعة لنفسه في تلك الصحاري واسماها "فضاي"؛ فقد كان يراها عالماً لوحدها، كأنما كان باب "فضاه" باباً لعالمٍ موازي؛ فمذ أن تلوح جدران "فضاه" تنفرج أساريره وتختفي نصف تجاعيده ويعود أبيض شعره أسوداً، ويبسم دونما حاجة، ويقفز دونما أن تثقل عظامه وأمراضه من حركته؛ كأن روحه التي تقفز من خفته. وكان كريماً، فيعطي ضعف ما يأخذ، وقد يفوته كل شيء لأن نفسه استحت من أن تمد يدها تسأل عن حقها. لذا عندما بلغ السبعين بهذه الروح الكريمة وسقط على فراش المرض

البيت

أحب البيت، ويعجبني نص خالد أحمد توفيق عندما قال: "أحب فكرة البيت"، وتدفئوني فكرة امتلاك مساحة خاصة، مليئة بالأحباب، وأحب أن لي شيئاً في الأرض أعود له بظهرٍ منحنٍ وكتفٍ منهك كل مساء فينسيني كل همومي عند أول خطوة على أعتابه.. أحب كيف نمضي ليالي الشتاء متحلقين حول موقد النار، نرتدي ملابس ثقيلة بألوان داكنة دافئة، بالكاد تبزغ وجوهنا خلالها، أحب عندما نضع إبريق الحليب بجوار الحطب ليبقى دافئاً، بينما نغمس الشابورة في كؤوسنا المملوؤة به، نسابق بالشابورة أفواهنا خشية أن تنكسر، فنسبقها مراتٍ وتسبقنا. أحب كيف يعج البيت بالضجيج أثناء تحضير مائدة الطعام، أو قبل الخروج لأي مناسبة أو موعد، أحب كيف تتحول السلالم لطريقٍ سريعٍ مزدحمٍ بالأرجل، التوقف فيه مستحيل وقد يودي بحياتك وحياة الآخرين، أحب اللحظات التي نستعير فيها أدوات بعضنا لإكمال زينتنا قبيل الخروج، وكيف نحشو حاجاتنا مع صاحب الحقيبة الأكبر. أحب النهارات الصيفية في البيت، تلك الأيام التي تمتلئ فيها ثلاجة البيت بأنواع المثلجات، ونرتدي فيها أخف الثياب وأزهاها لوناً، ونخرج سوياً للشاطئ أو للمنتجعات، ونلتحق بأحد المراكز أو النوادي الصيفية

هل ستختار الحياة؟

إنه مساء الجمعة، حيث من المعتاد أن نقضي ظهيرته متحلقين في مجلس البيت نشرب القهوة ونتناول الحلويات المتوفرة حينئذ، إذ لم نتعمد يوماً صنع حلويات خاصة لهذا اليوم، عدا مرة اشتهيت فيها تقديم السينابون فخبزته. وبعد صلاة العصر وبعد الفراغ من تناول الغداء يسمح بالانفضاض.. لحاجة كلٍ منَّا لخلوته والدعاء أو لقضاء بعض الواجبات المؤجلة. على كلٍ.. هذا المساء لم يكن كأي مساء جمعة، فوالداي وأخواي الاثنان بالخارج، بينما تنهي أمي بعض الأعمال في حجرتها، فأمضينا أنا وإخوتي الصغار ذاك المساء لوحدنا في المجلس ينشغل كل واحدٍ في شؤونه، لذا لم أجد حرجاً من الانزواء في حجرتي لكتابة مقالٍ حول الرواية التي أنهيت قراءتها فجر اليوم. رواية "فتاة البرتقال" قد يضحك البعض من اختياري لكتابة مقالٍ حول هذه الرواية إذ أنني عنونت مجموعتي القصصية بنوعٍ آخر من الحمضيات (الليمون)، لكنها محض مصادفة، فلقد اشتريت الرواية قبل ما يقارب ثلاث سنوات، لكنني لم أشرع في قراءتها إلا قبل أسابيع، ثم توقفت وعاودت القراءة ليلة البارحة. لم يكن في الرواية نقاط جذبٍ واضحة، لكنها كانت ممتعة، ودافئة وصادقة، كان فيها الكثير من البرتقال،

وادي السكون

في بلدة ما.. في وادي من أودية منطقة ساحلية بعيدة عُرفت هنالك عائلةٌ باسم عائلة السكون؛ إذ أن العائلة جلُّها من الصمّ، أصمٌّ يلدُ أصماً، شعرت العائلة بالنبذ والوحدة بين العوائل الأخرى، إذ كان الجميع لا يجدون طريقةً يتواصلون بها معهم، بل كانوا يتحاشون البيع والشراء معهم إذ لا يفهمونهم ولا يجدون حاجةً لذلك. شعرت عائلة السكون بأن الوقت قد حان لينتقلوا لمنطقةٍ أخرى ليعشيوا فيها وحدهم بدون أي ضغط أو شعور بالضعف والنقص. لاحقاً عُرفت منطقتهم الجديدة باسم قرية السكون. وفي إحدى الأيام الصيفية.. أحدُ أولادهم صعد لجبلٍ قريب ليستكشف المنطقة لكنه تعثر وسقط على رأسه وأصيب. مكث طريح الفراش لأيام، وبعد أن استيقظ وجد نفسه يسمع! سمع صوت الأقدام في الغرفة المجاورة، وصوت الأطباق في المطبخ، سمع صوت الأطفال يصيحون في أقصى البيت! قفز من مكانه وأخذ يضرب رأسه بيده قلقاً وخوفاً من هذه الأصوات غير المفهومة بالنسبة له! لم يكن يعرف ماذا تعني كل هذه الضجة، وليس يفهم كيف صارت تدخل لرأسه فجأة بعد أن استيقظ! رويداً رويداً أخذ يعتادها ويتحمس لاستكشاف أصواتٍ متخلفة فأمضى فترةً يركض لكل مكان ويتعرف على الأصوات الجديدة وي

كتف

اليوم يصعب على صدره أن يسع الهواء، يفتح فمه بوسعه مستجدياً نسمة هواء توَّسع رئته، يغلق فمه خائباً بأنصاف نسمات، يقف مستعيناً بالمعين ويجرّ قدميه بثقل نحو سريره، يجلس، ويتمدد على ظهره مريحاً إياه، لكن لا يرتاح ظهره، ولا يقع من على كتفيه شيء، إذ ليس للجاذبية سلطة على الهموم، فتثبت على كتفيه كأنما تعض الأثقال بنواجذها عليهما، تذكّره باستحالة الراحة ثانية بعد ثانية، لا هدوء، ولا نوم هانئ. يغمض عينيه وترتجف جفونه؛ رافضةً الإطباق، ينام لكن لا ينام. يستيقظ في الغد متنهداً، هو الوحيد الذي يتنهد فور استيقاظه، بينما يتثاءب كل البشر. يخرج لعمله، ويلقي بجسده على كرسيه كرئيس، هو الذي لا يعرف للتباهي ولا للغرور طريقاً ولا يمشي بين الناس فرحاً رافعاً أنفه مغروراً بمنصبه، حتى إذا سأله أحدٌ خارج عمله عن وظيفته، يقول: مدرس، يعلل ذلك لي بقوله: أنا أدرس الموظفين وأعلمهم شغلهم. يتوافد عليه في عمله الجديد عشرات المراجعين يومياً، كلُّهم تملأ أفواههم الكلمات، تفور دماؤهم، يسمع لكل هؤلاء ويسعى في كل حلٍ يراه وجيهاً لمشكلاتهم، حتى أنه ينسى أن يتناول قهوته الصباحية، إذ لم يكن يهتم كثيراً بأمر الإفطار، وكل متعته

جابر

تنويه: هذه القصة مبنية على أحداث حقيقية. في إحدى المدن الرئيسية المزدحمة بالبشر، المزدحمة بالأحلام والأمنيات، بالجوع والفقر والتخمة والثراء الفاحش، بهذا تكونت المدن، بكل المتضادات التي تعرف. في إحدى أحياء المدينة كانت تقطن عائلتي لثلاثة أجيال، كنا عوائل متفرعةً صغيرة، نقتسم بنايتين بستة طوابق، كان جدي ثرياً ومعمارياً وفيضاً من الحنان قبل كل ذلك، فكانت وصيته ألا نفترق، ألا يشق أحدهم صفنا، سواءً من الداخل أو الخارج. وعلى هذا كبرنا، يمرح الصبية مع أبناء خالهم وعمهم كما لو كانوا أشقاء. وأعمامي كأبي إن غاب أو حضر، كلنا على قلبٍ واحد. عمي الأكبر جابر، كان أكثر أعمامي شبهاً بجدي، توزعت صفاته في كل أبنائه وبناته ثم عادت واجتمعت في عمي جابر، كان له ذاك الحضور الجذاب، رغم كونه كبير العائلة إلا أنه لم يخلق ذاك الحاجز والمسافة مع صغار العائلة التي تجعلك تجفل منه، فكان يمازحنا ويلاعبنا وينادينا بكنىً مضحكةٍ كل حين. لدى عمي جابر ابنةٌ في مثل عمري، وبحكم تفرغ عمي في الفترة الصباحية فقد حمل عن والدي مهمة توصيلي يومياً للمدرسة، فصار المشوار اليومي الخانق أمتع المشاوير في العالم! فعمي كان يقدم السعادة و