ثلاث صفحات التخطي إلى المحتوى الرئيسي

ثلاث صفحات





كنت في غياهب الظلام والتيه، كنت ألتجئ لكل شيء… لكنني لم ألتجئ للقلم، كنت أبكي ماءً وليتني بكيتُ حبراً..

-ثم ماذا ؟

ثم إن الكتابة أنقذتني، أردت أن أكون أقوى، أن أكون كياناً بمفردي، لا ضير إن لم يُصاحبني صاحبٌ في طريقي للكفتيريا، ولا يشعرني حضور محاضرة وحيدةً بالغرابة، ولا تنتابني رهبة عندما أسير لوحدي بين الحشود ، أردت أن أكون لنفسي مئة شخص، كنت وجِلةً حينئذ، لم أرد أن أفشل في محاولتي؛ لأن الناتج سيكون عكسيًا عليّ وعلى ثقتي، بحثتُ عن شيءٍ يشغلني.. كنت جالسة على مقعد مكتبي وبدأت عيناي بالبحث بين جنبات حجرتي.. كتاب!، ياللروعة! حملُ كتاب سيكون لطيفاً!
"سيمنحني صورة حسنة، وسيبدو أنني مثقفة لا أهتم لسفاسفِ الأمور، ولا أرتعب من الوقوف وحدي، الكتاب حقاً سيكون الرفيق المثاليّ!"
-قبل ذلك الحين- كان يثقل كاهلي تكدّس الكتب تحت تصنيف (ما بُدئ به ولَم يُكمل) ، فوجدتها فرصة جيدةً للقراءة ولتخفيف الحمل عن كاهلي، أفردتُ لكلِّ يومٍ كتاب، ولكيلا أكذب… فقد كانت تجربة مهيبة!، كان الجميع ينظر إليّ.. شيءٌ لم أعهده إطلاقاً، خشيتُ أن أتخلى عن فكرة الكتب تلك، لم أسطع منع عينيّ من التحديق في الأوراق، لم أستطع قراءة صفحة واحدة!، كنت أبتسم بين الفينةِ والأخرى ليرى الجميع بأنني مستمتعة… ويصرفوا نظرهم عني، لكن هذا لم يُجدِ نفعاً..
استمررتُ في تجربتي حتى اعتاد الآخرون على مظهري، بينما كانت العادة الأفضل بأنني استطعت التغلبَ على خوفي وأنهيت جزءاً كبيراً من كتب الرف المؤجل، لذلك أنا لازلت أقرأ.. وفي كل مرة أقرأ فأنا أكتشفُ نفسي، وفي كل مرة أقرأ فأنا أصبح أقوى..

وبعد فترة من القراءة لازال الهمز واللمز مستمرّين، ضقت ذرعا به، أردت أن أشكو لأحد.. فلم أجد!، أخبرت أمي وأخبرت أبي؛ أثقلت كاهلهما فحسب، وضيّقت عليهما واسعاً.. شعرت بأنني يجب أن أحمل مشاكلي لوحدي، يجب أن أقضي على مشكلتي بجهدٍ مني، أردت سنداً فحسب، كنت أفكر من هذا الشخص الذي سيكون سنداً لي، كنت أسير بلا هدى.. انزلقت يدي ووقع الكتاب، نظرت إليه مطولاً... أوحى لي بفكرة! أجل! الكتابة!، عدت للمنزل مسرعةً وسحبت دفتراً كنت قد أخذته على عجالةٍ في أخر زيارةٍ للمكتبة، فتحته ونظرت للصفحات الفارغة… بكيت! إنها فارغة كجوفي.. نحن متشابهان كثيراً، دفترٌ فارغٌ لأن لا أحد ألتقطه وأحبّه، وأنا فارغة لأنني لم أجد شخصاً أُحبُّه
"ألا يمكننا أن نُكمّل نقصنا؟ أنا سأمنحك الحب بينما تمنحني مابين دفتيك؟"
كانت هذه أول صفقة رابحةٍ أجريها، كانت بلسماً.. أصبحت بعدها في غاية الاستقرار النفسي، أنقذتني الكتابة عندما لم يعرف أحدٌ بغرقي، سمعت نداء استغاثتي على الرغم من أنها لم تكن في الشاطئ، مدت الكتابة طوق النجاة بينما لا أحد اهتم بغرقي.

الكتابة صنعت مني شخصاً قوياً، الكتابة غيّرت فيّ الكثير، أكاد أبكي عندما أنظر لذاك الدفتر المُنقذ.. هذا الدفتر امتلأ لم يتبقَ فيه سوى ثلاث صفحاتٍ فارغة، ولا أعلم لِم كلما حاولت أن أملئ الصفحات المتبقية أعجز عن كتابة حرفٍ واحد، أود حقاً لو أنه كان بمليون صفحة، وأن لا أنتهي من كتابة مذكراتي فيه..
تركته.. واستمرّيتُ في كتابة المذكرات ونحوها وكنت في كل مرة أشارف على الانتهاء، أترك ثلاث صفحاتٍ أخيرة فارغة.. ولم أعرف الغاية من ذلك، رغم محاولاتي الجاهدة لفعل شيءٍ حيال تلك الصفحات الثلاث، في النهاية أيقنت بأن هذه الصفحات مِلكٌ للدفتر، الدفتر هو من عليه أن يكتب هذه الصفحات الثلاث.. لذلك أنا استمر بمنحه ثلاث صفحات في النهاية.. ليُخبرني عنه كما أُخبرهُ عني..

ومن ذلك الحين أنا أقف لأُخبر الجميع بأنّي قوية ولكنني في الحقيقة أشتكي للكتب، أضعف أمام الكتب فهي تعرفني جيداً، هذه رحلتي مع كُتبي وكتابتي.. يراها الآخرون رحلةً حزينة للكتابة، لكن في مثل هذه الحالة أيقنت بأن الله يبعث لنا الحزن لينقذنا.. ليدلنا على الطريق ونكتشفه بأنفسنا، شكراً لله على ذاك الحزن حينئذ.
١٢:١٨ ص
٢١ مايو ٢٠١٧
٢٥ شعبان ١٤٣٨
- زوفتيل

تعليقات

  1. أي ضعفٍ أنيقٍ هذا وأي ذاكرةٍ ملئت بالكتب ..
    ليس بالكثير إنما على الأكثر أنني أرى زاوية صغيرة مني تعانق تلك المقالة بحب ..
    أشكرك من كل قلبي لكونك استطعتي الركون داخلي وكتابتي . أشكرك لكونك كشفتي تلك الحرب الصغيرة التي أخوضها كلما طال بي الغرق !!
    أشكرك لما خططتي وسلمت يمناك ..����

    #أماني_الصالح

    ردحذف
  2. أحببت كلماتك لبنى...
    الكتابة صديقة لمن يلجأ إليها.. و المذكرات هيَ الوحيدة التي تستطيعُ أن تحتفظ بسرك دون أن تزلَ به و تخبرَ أحداً... الكتب و الكتابة حاجةُ لجوء، دافعُ قوة، شيءٌ عميق .. أصدقاءُ الكتب و الكتابة غامضين و أقوياء ، هذا ما أشعر به و أخوضه،، هذا ما أشعرتني به أحرفك أيضاً ..
    لامستني كلماتك ، أنتي رائعة..💕

    ردحذف

إرسال تعليق