الجزء الأول: الغرفة ٣٥٦ التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الجزء الأول: الغرفة ٣٥٦


في عصر يومٍ حار... في أيام الصيف الملتهبة، مشيت بجوار أبي للمسجد في أخر الشارع.. وصلنا المسجد، وبعد الصلاة لفت نظري مهندس بزي مهنته، كان شامخاً ومذهلاً بطريقة رائعة! كان وكأن الشعاع من حوله!

- «مهندس!»

قال أبي «مهندس؟ اوه أجل إنه أحمد ابن أبو أحمد جارنا الخامس أخبرني والده عن عمله ياله من رجل رائع، يبدو أنك أحببت مهنته؟ يمكنك أن تكون مهندساً رائعاً مثله!»

ابتسمت في وجه أبي بفرح، عدت للمنزل يومها ولم أنسَ كلمة أبي.. وكتبت على صدر ورقة ما (أمنياتي)

ووضعت في أولها [١. سأكون مهندساً رائعاً وسيفخر أبي بي].



بعد خمس سنوات.. تخرجت من الثانوية وها أنا أقف أمام بوابة الجامعة.. أمام كلية الهندسة!، أبي لم يعلم بأن كلمته تلك التي ألقاها في المسجد أثرت فيّ، ولم يعلم بأني بنيت حياتي على "كلمة"، لا يدري أبي لمَ أخترت الهندسة من بين التخصصات أجمع، لكنني أعلم لم فعلت هذا، مضيت بخطى واثقة للكلية.. درست سنوات طويلة.. أنهيت الأربع سنوات، بقي لدي سنة واحدة وأضع قبل اسمي "مهندس" كنت متشوقاً لأخبر أبي بأنني أصبحت مهندساً لأجل تلك الكلمة، أردت أن أرى وجهه منبهراً ومتفاجئًا.



إنها الإجازة الصيفية، وهذا يعني النوم والخمول والسهر.. والسفر!، سافرت مع أصدقائي لمدة خمسة أيام لأحد الدول القريبة، كنت أتصل بأمي يومياً.. في اليوم الثالث بدأ صوتها مرتبكاً..

- «ما الأمر؟»

- قالت بنفس الرجفة «لا شيء.. أخبرني عنك فقط.. كيف حالك؟ هل أنت مستمتع؟»..

كان هناك خطبٌ ما وأنا متأكد تماماً لكن لم يكن باليد حيلة.. كانت تراوغ أسئلتي ببراعة!، انتهت مدة سفري بسلام، طائرتي كانت في وقت متأخر من الليل لذلك عدت للمنزل مع أول ساعات الصباح، دخلت المنزل.. الهدوء يعم المكان، لم يلفت نظري الأمر.. ربما كانوا نياماً..


استيقظت ظهراً.. هدووء، غريب! ربما كانوا عند خالتي؟ فتشت الغرف وما من أحدٍ، ولا حتى أبي! هل سيذهب أبي لخالتي! مستحيل!، إلتقطت هاتفي واتصلت بأختي «أهلا أريج كيف الحال؟.. أنا في المنزل أين أنتم؟»... سكتت لثوان ثم قالت «اسمعني جيداً.. أمي قالت بأن لا نخبرك بالأمر بما أنك كنت مسافراً لكنك عدت الآن لذلك سأخبرك .... أبي وقع في غيبوبة من يوم خرجت من الرياض...» 

- «ماذا؟ أي غيبوبة! ماذا يعني ذلك! لا يمكن!! كيف حدث ذلك؟؟»

- «كان خارجاً يقطع الشارع ثم اصدمت به سيارة ثم...»

- «ما اسم المشفى؟؟»

أخذت مفاتيح سيارتي وخرجت سريعاً، إلتهمت الطرق إلتهاماً، أخذت اكثر الطرق اختصاراً مررت بالأزقة وشتمت الإشارات، ما هذا الازدحام؟! لماذا جميع البشر خرجوا اليوم من منازلهم!!


وأخيراً! وصلت لباب المشفى..، أخذت طريق السلالم.. ما أطول السلّم.. وما أوعره! وكأنني أتسلق جبلاً! عسير ومنهك! لم أرد أن أصل، أردت أن أقع ويغيب وعيي وتنتهي هذه المهزلة كـ "حلم"!، أردت بكل ما فيّ أن أنكر وجود أبي في أحد غرف هذا المشفى..


وقفت أمام الغرفة ٣٥٦، اسم والدي بجوار الرقم.. أبي هنا حقاً.. ألا يكون تشابه أسماء؟،...

فتحت الباب.. ووقفت بين ذهول أمي ودموع أخواتي، نظرت لأبي.. إنه حقاً أبي ليس تشابه أسماء.. يمتلك ذات الشامة على رقبته، لديه نفس التجاعيد، ونفس العينان.. الشارب.. واللحية، هذا أبي الذي أحب.. هذا قلبي راقدٌ على السرير، أبي الخمسيني طريح الفراش.. نائم بكل سكينة وهدوء بينما نحن متحلقون من حوله بكل إضطراب وقلق، وكأنّ أبي جرنا لذات الغيبوبة معه، لم أسمع نداءات أمي منذ دخلت الغرفة.. «إياد! متى وصلت!» أوه أجل.. أمي! وقفت أمامها ومسحت دموعها وحضنتها، سألت عن أحوالي ومتى وصلت وأسئلة مختلفة لا أعلم ما هي بالضبط ولا أعلم هل أجبتها بإجاباتٍ صحيحة.. أو لم أجبها أصلاً!


جاء الطبيب المسؤول للغرفة.. «أأنت ابنه؟ تعال خارجاً»... وقفنا عند الممر وقال لي:..

- «النساء ضعيفات لذلك كنت أنتظرك منذ أن وافتنا حالة والدك...»

- «شكراً لاهتمامك، ما حال والدي؟»

- «لا أعلم ماذا أقول لك لكن والدك مصاب بسكتة دماغية واحتمال نجاة المصابين بذلك ضئيلة جداً وتكاد تكون معدومة.. أي أنه يجب أن تنسى أن يعود صحيحاً كسابق عهده»

ماذا ماذا؟ لن يعود؟ ماذا تعني بذلك! «ماذا عن المستشفيات في الخارج؟»

- «هو ذات المرض.. هنا أو هناك لن يختلف شيء»



عدت للغرفة.. لأرى وجوهاً باكية، وأمي لازال يعلو وجهها ذات الملامح المنهكة.. أخذتهم للمنزل واشتريت لهم عشاءً.. بدؤا وكأنهم لم يأكلوا شيئًا منذ أعوام..


عدت لأرافق أبي في المشفى.. تحدثت معه كثيراً.. لكن مامن مجيب، أخبرته عن أحوالي، عن أحوال أمي وأخواتي، «اشتقت لك كثيراً»، أرجوك أنهض من هذا الفراش الأبيض القاتل، أخبرني بأنها مجرد دعابة.. يالها من دعابة سيئة من رجلٍ كبيرٍ مثلك، لكن أبي لم يجبني.. لم يبتسم.. لم يصدر أي رد فعل.. هذا... خانق!



دعوت الله كثيراً «يا رب أنا أحب أبي كثيراً من فضلك دعه لديّ قليلاً.. قليلاً فحسب!»، كلما خرجت ودخلت من غرفته راجياً من ذلك أن أعود لأراه واقفاً مرحباً بي .. لكنه يستقبلني في كل مرة بوجهه الجامد.. بتجاعيد وجهه التي لا تتحرك، مضت فترة منذ سمعت صوته.. نادِ اسمي.. فقط قل إياد.. مرة واحدة!




«كل نفس ذائقة الموت» قالها الطبيب المسؤول عن حالة أبي.. أمسكت بكتفه وهززته! صرخت في وجهه «لا يمكن!! إفعل شيئًا!! هذا أبي! أتفهم ماذا يعني أبي؟؟!» لا طائل من الصراخ ولوم الطبيب.. يبدو أن الله كان يحب أبي أكثر مما أفعل.




مر شهران.. كل شيء قاتم ومظلم ومخيف، في كل زاوية كان يختبئ ظل الموت يترقبني، كرهت المستشفيات وكرهت الأطباء والأسرّة البيضاء كرهت كل شيء في كل شيء، أمضيت وقتي أتقلب في الظلام والتيه.. أنا غارق في قاع الوحدة، أبي ليس هنا، وهذا يفتح باب الألم ليجتاح صدري ويمسك بقلبي ويعصره.. لا يمكنني أن أصف هذا الشعور.. أنا عاجز عن التعبير،... أشفقت أمي على حالتي كثيراً،

كان الجميع حزيناً وكنت أنا غارق في الاكتئاب، كان الجميع يبكي، وكنت أنتحب، كنت أشعر بضِعف شعورهم.. وكان الحمل ثقيلاً على كاهلي.. أشد مما تتخيل.




بدأت السنة الدراسية الجديدة، قدمت إعتذاري للجامعة وانسحبت، أخذت بحزم كتبي.. سأنهي فكرة الهندسة، لا يوجد شيءٌ جيد في هذا، المعنيُّ بالأمر قد مات، لا يمكنني أن أخبره العلّة من دراستي للهندسة لأراه متفاجئًا، لن يحضر أبي تخرجي ولن يرى قبل اسمي "مهندس"، لا شيء أفخر به، فلتمت الهندسة ولتنتهي الأحلام، ويالها من نهاية سخيفةٍ لشخصٍ مثلي!


وبينما كنت أوضب الكتب والحاجيات وجدت ورقة قد طُويت بعناية بالغة.. فتحتها وكان مكتوباً على غرتها ( أمنياتي)... [١. سأكون مهندساً رائعاً وسيفخر أبي بي]..

أحلام مراهقين! أبي تحت التراب.. لاشيء جيد سيحدث، السيء فقط.. الأشياء السيئة ستتوالى وستستمر بالحدوث!.




«اسمع يا ولدي.. أنت ماشاء الله عليك كامل ولا ينقصك شيء، وأنا أريد أن أفرح بك وأرى أحفادي» التفت لأمي.. غمزت بعينها لي «لا يمكن أن تفكري بأن تزوجيني؟!»، رفضت رفضاً قوياً، كرهت فكرة الصبية وفكرة الإنجاب.. ثم أموت لأترك صبيةًفض لا حول لهم ولا قوة، كنت خائفاً جداً، لا أريد أبناء ليعيشوا الألم كما عشته، لا أريد صناعة ألمٍ وندبة لا تنتهي!


ولكن بطرق أمي الملتوية ها أنا أرتدي بشتاً أسوداً وبجانبي فتاة حسناء، ومن هذا اليوم أصبحت -متزوجاً-، كان حفل زفاف كبير.. وموائد الطعام الضخمة، والكثير من الفساتين والثياب، وروائح العود والبخور، لكن أبي لم يحضر هذا كله، أبي لم يتمكن من أن يحضر زفاف ابنه الوحيد.



بعد شهر.. كنت أتناول فطوري كالعادة صباحاً وكانت زوجتي بطريقة غريبة تجلس بجواري وتبتسم..

- «امم إياد.. إحزر ماذا لدي من الأخبار لك؟»

- «... حصلتي على ترقية؟»

- «كلا بل أفضل من ذلك!!... أنا حامل!»

التفت لأرى وأتأكد مم سمعت «ماذا؟!!»

- «…أنا حامل»

يتبع..

 الجزء الثاني هنا
٩:٤٠ م
٢٥ مايو ٢٠١٧
لُبنى

تعليقات

  1. ماذا تتوقع تكملة القصة؟

    ردحذف
  2. ١ ٢ ٣ الوووو لبنى ؟

    ردحذف
  3. نشرت تعليق وانحذف، تحطمت نفسيا ����.

    ردحذف
  4. حامل من اول شهر 😩😩💔💔💔💔!!! لو اني زوجها بكفخها خير من اول شهر ، المهم حبيت ااقصه وتحمست اعرف وش تفاصيل الجزء الثاني ، اتمنى ينزل ب اقرب وقت 💜💜💜💜

    ردحذف
  5. بإنتظار ردة فعله بيزعل وإلا يتغير ويفرح 🤔

    ردحذف
  6. اشكرككء " عالقصههء " الرائعه !"

    ردحذف

إرسال تعليق