سينقضي هذا الوقت، عمر الطفولة والشباب، والمراهقة والصبا، والعبث والرشد، ستقف يوماً على مشارف نهاية حياتك.. ومسيرتك الحافلة، متمعناً فيما مضى من سنينك، فيما مضى من أعمالك، فيما مضى من علاقاتك ومعارفك، من أخطائك وإحسانك، ستقف متفكراً متأملاً وعندها شعور واحد سيغلب على قلبك، شعور وحيد.. لا يقوى أن ينازعه أحد... شعور الشوق!
ستشتاق لكل شيء في كل شيء، ستود لو تعود قليلاً لأيام الطفولة.. عندما كان أكبر مناك وعظيم شغفك هو موعد وصول والدك للمنزل ليحضر الحلوى لك!، ثم ستود العودة لأيام المدرسة الإبتدائية.. عندما تشبثت بأمك لكي تبقى معك ولا تترك وحيداً، تتمنى حينها لو ودعت أمك بابتسامة وتركتها تعود للمنزل بدون قلق.. وبدون أن تراقبك من بعيد على الأقل لأسبوع!
ماذا عن أيام المدرسة المتوسطة؟ عندما دخلت عراكاً لأول مره، وعدت للمنزل مدمى الوجه؟ روعة أمك وقلق والدك يومها كانا كفيلان بحملك لسابع سماء!.. والآن تود لو على الأقل غسلت وجهك، ووضعت لاصقاً على جروحك،.. وتسللت خفيةً لغرفتك.. تود لو لم تقلق والديك فقط ليلتها!
تلت المتوسطة.. الثانوية.. كنت تسعى لنيل الدرجات، وتحاول كسب صداقات ومعارف، في نهاية السنة الثانية.. جلست في غرفتك وأحصيت معارفك منذ الطفولة.. كانوا يفوقون المئة صديق! ذلك اليوم.. نسيت أن تحسب أختك، صديقتك الأولى على الإطلاق..
بعد التخرج، أقامت عائلتك الصغيرة حفلاً كبيراً، قام والدك بدعوة جميع الجيران، وصنعت أمك أكبر كعكة بالفواكة، وحضَّرت أختك هدية رائعة لأجلك، كنت سعيداً جداً يومها، سعيداً لدرجة أنك أحتضنت الجميع وأخذت تبكي.
في أول سنة لك في الجامعة اختفى أصدقائك الكُثر، انشغل الجميع بحياته، بعضهم ذهب للعمل في متجر والده، والأخر قرر العمل في مصنع ما، والثالث انتقل لمدينة بعيدة، شعرت بالوحدة حينها.. حتى دخلت أختك وقدمت لك طبقاً من الكعك، منذ ذلك اليوم صارت صديقتك الأولى والمفضلة.
بعد التخرج من الجامعة والانتهاء من ارهاق الدراسة، تبحث جاهداً عن وظيفة لتكسب مالاً، فترى إعلاناً في جريدةٍ ما فتذهب للموقع المذكور.. ثم ترى أن رب العمل يكون والد صديقك في الثانوية!، فيرحب بك.. ويوظفك على الفور!.. في المقابل استعدت بعضاً من ثقتك تجاه علاقاتك وصداقاتك.
بعد الوظيفة والاستقرار المهني أخبرت أمك برغبتك بزوجة، فذهبت هي وأختك بحثاً عن فتاة جميلة.. لأجلك، بعد بحثٍ وسؤال.. وجدن واحدة، وها هي تزف لك!
تزوجت.. ومن ثم رزقك الله بصبي وفتاتين، وحصلت على ترقية في عملك.. فازداد عملك.. وتأخرت ساعة عودتك، وبالكاد يتذكر أولادك وجهك!، تعود متأخراً فتخلد للنوم.. وتستيقظ مبكراً لتهرع إلى مقر عملك لترحب بمديرك وتناقشه في ملف البارحة، بينما كان الأولى أن تتناول الافطار مع أبنائك وتمازح زوجتك وتودعهم ذاهباً لعملك بكل دفءٍ وابتسامة.
مضت السنين.. وحان سن تقاعدك، وها هو اسمك مسجلٌ في قائمة التقاعد، تحزم أمتعتك وتودع زملائك في حفلٍ صغير ودعت فيه الشركة ثلاثين موظفاً غيرك، فتلزم المنزل ولا تخرج منه، فأنت لم تألف الحياة بلا عمل!
بعد فترة تحثك زوجتك على البحث عن عملٍ ما.. أو أي شيء لتقضي فيه وقتك، تخرج للشارع بعد نقاش دام لساعتين، تذهب للبقالة.. وتشتري عصيراً وتتجول في الشوارع بلا هدف، تقرر بعد ذلك زيارة والديك، فتركب سيارة أجرة وتتجه مباشرة لمنزلهما، قضيت ذلك اليوم بأكمله معهما، كم اشتقت لأمك وأبيك.. للمنزل.. لرائحة المكان، والأريكة والسخان، وفرن المطبخ، وباب المنزل، والوسائد، والسجاد اشتقت لكل شيء! فكل شيء هنا يعيد الذكريات، تنام تلك الليلة في غرفتك في منزل والديك...
في اليوم التالي تأتي أختك لزيارة والديك بعد أن علمت بحضورك، تتصافحان ووتتبادلان السلام.. ثم تنظران لعيني بعضكما.. لثوان.. ثم تحتضنان بعضكما وتبكيان، اشتقتما لكل شيء أيضاً، كان ذلك واضحاً في عينيكما.
ماتت أمك بعد عشر سنين من ذلك، وتبعها والدك بعد أربع سنين، ثم بقي المنزل كما هو، تذهب له خلسة كل أسبوع لتبكي بكاء الطفل.. وتمسح عينيك وتعود لمنزلك مع بعض الحلوى لأطفالك، تزور أختك كل شهر.. وتتضاحكان وتتسامران حتى طلوع الفجر.. فأنتما لأصدقاء المفضلين لبعضكما!
كبِرت كثيراً.. وبلغت السبعين، كبر أطفالك والتحقوا بالجامعة وبعضهم لازال طالباً في الثانوية، كبرت زوجتك.. أصبحت تسعل وعلا وجهها التجاعيد.. هي نفسها التي على وجهك.
بعد الثمانين.. أُصبت بمرض القلب، وكنت خائفاً جداً.. ومتعباً جداً.. ومشتاقاً جداً جداً!، أردت الرحيل، ثم تنظر لأختك وزوجتك وأبنائك.. فتود البقاء، ثم تنظر لقبريّ أمك وأبيك فتود الرحيل مجدداً.
تتوالى عليك أخبار موت زملائك في الدراسة وفي الجامعة وفي الشركة، وكل خبر كان يكسر فيك عظماً.. ويزيدك خوفاً وشوقا.
جاء اليوم الموعود.. استيقطت صباحاً وعرفت يقيناً أنه يوم رحيلك، كان كل شيء يدل على ذلك، لأن كل شيء كان رائعاً بشكل غريب! كنت تمشي بخفة وتبتسم برقة، وتضحك بلا سعال وكحة، كان وكأن الله يُهديك هذا اليوم لتودع فيه الدنيا!، اتصلت على أختك ودعوتها هي وزوجها وبنيها على الغداء، وأخبرت أبنائك بأن يعتذروا عن بقية الصفوف اليوم.. وأن يلغوا جميع المواعيد، أردت أن تجتمع عائلتك مجدداً لمرة،.. تجتمع مجدداً في منزل والديك، بعد الغداء وتناول الشاي والحديث الطويل الممتع، جهزت عشاءً ضخماً دعوت فيه كل الجيران.. كانوا ذات الجيران الذين حضروا تخرجك.. لكنهم الأبناء، وأبناء الأبناء ..وليس الأباء!، كان عشاءً ممتعاً، كان الضحك يعم المكان، كان وداعاً مثيراً حقاً!
.. في اليوم التالي.. وفي أول ساعات الفجر احتضنت زوجتك.. ثم خرجت روحك من جسدك، ودَّعت العالم أجمع، منزلك.. ومنزل أختك.. ومنزل والديك، المدرسة الثانوية والجامعة، والشركة، والشوارع والدكاكين، ودعت كل شيء... وصعدت عالياً في السماء..
وبدأت تفكر.. هل أنا نادم.. أم لا؟
٢:٥١م
السبت
١٧ محرم ١٤٣٩ه
7 أكتوبر 2017
قلة التعليقات تحبط الكاتب يا رفاق 😢💌..
ردحذفماذا اكتب وماذا اقول شكرا يالبنى على هذه المدونة دخلت قلبي اتوقع انها صدقا لامست شيء من حياتي ،
ردحذفلبنى انا احبك .
الدنيا حقيرة واللي فهمته من كلامك انه ي اخي اهتم بالناس اللي حولك قبل تندم على فراقهم يا حيوان .
يجب ان تكون عقلانيا في صداقاتك (اختك هي صديقتك الأولى ؟) سأفكر في كلامك هذا .
اود ان اقول من هذا المنبر انا احبك يا امي ويا ابي ويا اخواتي ويا اخواني ويا لبنى ❤❤.
فلم مؤلم..ولكن هذه هي الحياة
ردحذففلم مؤلم..ولكن هذه هي الحياة
ردحذفماشاء الله ، تسلسل الأحداث وعرض الحياة واختصار أهم الأحداث بشكل ممتع وحِكم في كل موقف .. و أحب أن أعلق : الأفضل دائمًا أن نعطي في حياتنا كل شيء حقه وأن لاننغمس في شيء دون الآخر .. حتى نأخذ مانحتاج ويكفينا ويرضينا من العائلة والعمل والهواية .. وأن نضع لهذه الحياة حدود نرسمها بقال الله وقال رسوله .. حدود تقودنا إلى نهاية جميلة �� .
ردحذفهل أنا نادم أم لا.. جعلتني أشعر انني أريد بدء حياه جديده وفعل كل ما لن اندم عليه وتصحيح حياتي جعلتني افكر ماذا لو انني انا الذي خرجت روحه من جسده؟!
ردحذفلكن انا الان لدي فرصه في عيش الحياه من جديد بسبب كتاباتك ،كل ما تكتبينه يغير شيء في داخلي .. رائعه يا لبنى.
رائع رائع رائع لبنى👏👏👏
ردحذفابكيتيني
حزينة جدًا ومُبكية��
ردحذفمبببدعة يا لُبنى!����