موعد الشمس التخطي إلى المحتوى الرئيسي

موعد الشمس


هذا الليل طويل يا أبتاه، طويلٌ ولا ينتهي، مهما طويناه، مهما ازدادت عدد فناجين القهوة التي شربناها، مهما تناولنا كعكة أو حلوى، يا أبي هذا الليل لا يمضي، يعصف بقلبي؛ يرتبي ليلةً.. والليلة الأخرى يبعثرني. أتتذكر قصيدة منذر أبو حلتم التي كنت ترددها ذات الليلة يا أبي؟ الذي أنشد يقول فيها:
"وأنا إذا جاء الشتاء تصيبني عدوى المطر
الليل يمضي مثل قلبي مثقلاً ملَّ السفر
كوني معي إن زار قلبي ليلة صوت المطر".


يا أبي إن الليالي جاءت لنسكن فيها ونرتاح، لنهدأ ونضع أمتعتنا ونتوسد الأرض ونفترش السماء، يا أبي إنني لم أكره الليل قط، بل كنت أترقبه كما أترقب رديفه النهار!، أتشوق لبزوغ القمر، لتربعه في صدر السماء، لليوم الذي يكتمل فيه القمر بدراً، لليوم الذي يلحظ البشر المشتري بازغاً بجوار القمر، أنتظر الليل لأنظر للنجوم، لأنظر للسماء الواسعة كيف تُظلني، للحياة الواسعة من فوقي ومن تحتي، لصرصور الليل الذي يشدو بألحانه المتكررة المملة بالنسبة لي وهو بين أقرانه منشد القوم!



إنها ليلة منتصف الشهر! هربت من أمي حتى لا تجبرني على الخلود للنوم، ووضعت الوسائد تحت غطاء سريري، وخرجت من غرفتي وكأنني مغامر في فلمٍ وثائقي!، انتظرت الليل يا أبي.. ودائماً ما انتظرته، صنعت شاي البابونج، وصعدت خلسةً لسطح المنزل، تسلقت السلم وجلست في أعلى درجاته -رشفة من شاي البابونج-.

أحببت الليل يا أبي، دائماً ما كنت أعتبره صديقي، حتى عندما سَخِرت مني فتاة في الصف عندما أجبتها على سؤالها "من صديقكِ المقرب يا جمان؟" أخبرتها "الليل!"، بالرغم من أنها أحدث ضجة في غرفة الصف وأخبرت كل معلمة تدخل حجرة الصف لدينا، وضَحك الجميع عليّ.. مع ذلك لم أهتم، كنتُ أعرف أن الليل لن يرحل.. لن يسيء لي، كنت أعرف أن الليل دائم الابتسام في وجهي، دائم المحبة لي، كنت أعرف جيداً أنه وسيم ورائع فوق كل ذلك، وأنه شديدة الذوق إذ يجمع النجوم على صدره، لم أكن أتمنى أفضل منه صديقاً، ما عساي أفعل ببشري قد يكرهني في أي لحظة ولأي ظرف؟ كيف أأمن وأنا تحت رحمة أمزجةٍ وعواطف بشرية؟
لذلك الليل يا أبي صديقي.. صديقي الذي أحب.

سمعت جلبة في الأسفل وعلى ما يبدو أن أمي اكتشفت خدعتي.. نزلت بالشاي درجات السلم وفتحت الباب المؤدي للأسفل.. وودعته..
"ودعته وبودي لو يودعني
صفو الحياة وأني لا أودعهُ!"(١)
وانصرفت راكضةً لحجرة نومي.


يا أبي إن هذا الليل يطوي أحزاني كما تُطوى الصحف، إن الليل يسليني، يبعث بضوء نجومه ليبهجني إن جئته باكية..
يا أبي.. ماذا عساي أقول لأصفه؟
"بعيدٌ أنت أبعدُ ما تكون
كشيءٍ لا تُحيطُ به العيون
قريبٌ أنت أقربُ من فؤادي
يقينٌ لا تُخالطه الظنون"؟
أيا أبتاه إني قد فُتنت بهذا الليل وبات قلبي مسلوباً لديه، أيا أبتاه.. كيف يسكن البشر وحُسن الليل لا يقض مضاجعهم؟ وإني وإن قاتلي النعاس قاتلته فقتلته، وإني قلتني جررت وسادتي ونمت على سطح المنزل لا يحيل بيني وبين السماء حائل، أما كان الليل سكناً.. لننظر إليه؟ لنضع أثقال قلوبنا لديه، لتنتهد.. ونستنشق هواءه؟ أما كان الليل ليستأنسَ به؟ لنداريه ونسهر معه ونتبادل الأحاديث؟ وكأننا أصدقاء لم نتقابل منذ وقت طويل؟، يا أبي إن الليل جدير بأصحاب المخيلات الخصبة مثلي.. أما أشخاص مثل الفتيات في المدرسة فعليهم النوم ليلاً.


يا أبي أيمضي ليلكَ بخير بدوني؟ أتأنسه كما آنسه؟ أتحكي لليل قصصك؟ وتشكو له ما ألَمَّ بكِ؟
"‏يشاركني بآلامي وحزني
ويُقبلُ في مسرّاتي وأُنسي
أجالسُهُ لساعاتٍ طوالٍ
وأحسبُ أنني جالستُ نفسي"(٢)
أوقد يكون الليل صديقك يا أبي؟ صديقنا المشترك؟ والذي وأخيراً اشتركنا في شيءٍ معاً غير أني أحمل اسمك، يا أبي.. إني اشتقت لك.. أما آن لهذه المشاعر أن تُجاب؟


يا أبي إن الليالي التي أحبها تمضي سريعاً سريعاً، وكأن القطار السماوي قد يفوتها، يا أبي أصار الليل سريعاً أم أنني أغفل ولا أتذكر مسامرته؟ يا أبي.. متى صار الليل ثقيلاً على قلبي هكذا؟ متى أصبحت مجاورته ومصاحبته بهذا الانهاك؟ أيا أبتاه.. ألازل ليلك هو ذاته منذ أربع سنين؟ ألازلتما تضحكان سوياً وترتشفان كوب الشاي وتَعُدان النجوم وتخمنان أسماء البشر؟ ألا زال ليلك أُنساً؟ أم عاد سكنا وسباتا؟


يا أبي.. إني ما عدت أستمتع بالليل، ما عاد يؤنسني ولا يقض مضجعي موعد لقاءه، يا أبي هذا الليل طويل.. طويلٌ على قلبي مسامرته، وهذا الشاي مرٌ.. ما عدت أحتمله، يا أبي حتى هذا السكر.. ما عاد سُكر، يا أبي حتى الدموع لا تَسكن.. وكأنها أصبحت مطراً وصارت تهطل هطولاً، أهذا البكاء الذي يقولون؟ أهذا الذي يلتف المرء حول نفسه عندما يقوم به؟ ويغلق الأبواب ويتغير صوته وتحمر عيناه وتنتفخان؟ أهذا ما يسمونه "بكاءً" يا أبي؟

يا أبي أما آن لليل أن يرحل؟ ألم يحن موعد الشمس؟، يا أبي حتى النجوم.. لا تتوقف عن اللمعان.. ولا أتوقف عن ارتكاب الأخطاء في العد، قد كنت أعد النجوم حتى المئة.. يا أبي حتى العشرين لم أصل لها، ألا يهدأ هذا الليل؟ ألا تنقذني الشمس يا أبي؟ أيطول الليل هكذا لديك؟ وكأنه ليلٌ أبدي؟ أيا أبي أتتخطى الشمس موعدها؟ أتنسانا يا أبي؟


لا أعلم مالذي يجري بداخلي، لا أدري كيف تحولت أشيائي المفضلة لأشياء لا أطيقها، يا أبي.. أكانت رغباتك ومحبوباتك تتقلب هكذا؟ أكنت كل صباح تستيقظ لترى شيئاً جديداً.. شيئاً لم يكن لديك البارحة.. لكنه الآن أشد انتماءً إليك من أي شيء؟، أيا أبي.. كيف الثبات؟ كيف يستقر عقل المرء وقلبه؟ أما آن لهذه الفوضى أن تهدأ يا أبي؟

إن الأمور تصبح أسوأ هنا، الكثير من الأمور التي كنت أتجنب حدوثها، أتجنب أن أكون مخيرة وتكون إحدى خياراتي، الكثير من الأمور التي لم أظن أني سأخوضها مطلقاً.. يا أبي إني أخوضها وتقع علي وأُخيَّر بها..
إن قلبي متعبٌ ومنهك، ولا أقوى على قضاء حاجاتي، وكل شيء يتسرب من بين أصابعي، لا أملك أن ألتقطه ولا أملك شجاعةً لأستبقيه لدي، أيا أبي.. لما آلت الأمور لهذه النقطة؟ مالخطأ الذي ارتكبته ليهرب من قلبي كل شيء، كل الكتب والليالي -التي أُحبها سلفاً- وحتى صباحاتي، دفاتري وأقلامي ومقعد مكتبي وباب المنزل البني، يا أبي إنهن يهربن مني كأنني ممسوسة ولا أحد منهم داواني، يا أبي أأسعى خلفهن بفوضاي أم أبقى حيث أنا؟ أيا أبي.. أين أنت؟ دلني!



__________
حاشية:
(١): للشاعر محمد بن زريق البغدادي
(٢): للشاعرة سوسن الدعيس


26 صفر 1440
24 Jun 2018 / 4 Nov 2018
4:25 AM

تعليقات

إرسال تعليق