
صباحٌ غائم، وندىً على أوراق الشجر، وأختي الصغيرة تشاركني حلواها هامسة "لا تخبري رنيم أنني قاسمتكِ الحلوى لأنها ستطالب ببعضها وأنا أحب الحلوى كثيراً.. لكنني أتقاسمها معك لأنني أحبك أكثر" أتساءل لو كانت الدمية رنيم ستغضب لو سمعت هذا الحوار؟
تصيح بنا أمي لتناول الافطار "حضّرت لكم الفطائر المحلاة!" إنه الصنف المفضل لدي على الافطار!، .. عندما فرغ الطبق وامتلئ هذا البطن الصغير بلذائذ الطعام، فكرت.. "أليست هذه الحياة المثالية؟" ضحكت على مصطلح المثالية وقمت أحزم أغراضي لحضور الصفوف، بالرغم من أنها اجازة الصيف إلا أنني التحقت ببعض الصفوف لأن أمي تقول دوماً "عليك تجربة كل شيء في سن صغيرة، عندما تكبرين ستتشابك الأمور كخيوط بيت العنكبوت وتقيدك!"، وأعتقد أن نصيحة أمي هذه كانت كفيلة بكرهي للعناكب "من سيحب شيئاً سيقيده؟!"
بعد الظهيرة كان لدي صف طبخ، وهو الصف المفضل لدي، لا أعرف أروع من طهي الطعام اللذيذ وتقديمه لمن نحب، أعني أننا نصنع شيئاً مذهلاً لذيذاً من مواد أولية بسيطة، دقيق وسكر وبعض الزبدة والبيض، وتخرج لنا كعكة شهية لذيذة!، أما السبب الآخر فلأن أمي تحب الكعك.. ولميس مهووسة ككل الصغار بالسكر..
بعد أن انتهى الصف وخرجن جميع الفتيات لمنازلهن بقيت هناك ساعة إضافية، كنت أخطط لخبز كعكة والعودة بها للمنزل.. أردت أن نقيم حفلة بلا مناسبة! متى احتاجت الحفلات مناسبة؟
عدت للمنزل راكضةً ذاك المساء حاملةً فوق رأسي صندوق الكعكة وطوال الطريق كنت أفكر "هل عاد أبي من رحلته؟ كيف سيبدو وجه أمي؟ كيف سيبدو وجه لميس؟"
عندما اقتربت من المنزل وجدت سيارة أبي تركن أمامه!، قفزت فرحاً "لقد عاد!"، دائماً ما كان أبي يسافر لبعض الدول لأمورٍ تجارية تخص عمله، يمتلك أبي العديد من المتاجر في مدينتنا، وهو مشغولٌ على الدوام بها، مشغول لدرجة ألا ينتبه لسقوط سن لميس، ولا لقصة شعر أمي، مشغولٌ لدرجة أنه فوّت حضور حفلي المسرحي، فسن لميس الجديدة خرجت وشعر أمي طال ونما، ومسرحيتي تلاشت أخبارها في الهواء بعد مرور الوقت.. لا بأس.. كل هذا لأجلنا..
دخلت للمنزل أصيحُ بصوتٍ عالي "أبي! أبي!" انزلت الكعكة عن رأسي ووضعتها على طاولة المدخل، وركضت للداخل أتفقد الحجرات بحثاً عنه، لطالما كان أبي مهووساً بالمفاجآت من هذا النوع، لكنه ينسى دائماً أن يركن سيارتها بعيداً عن المنزل لئلا نكتشف قدومه..
"وجدتك!" صرخت بها بعد أن سمعت ضحكته المكتومة لأن لميس قامت بدغدغته محاولةً مساعدتي، رفعتُ غطاء السرير لأراه.. والبِشْر والنور يسكنان وجه.. عينان خضراوان وشعرٌ أسود قاتم ووجه في غاية البهاء، وضحكةٌ أحسن من ترائي هلال شوال... احتضنته "أطلت الغياب هذه المرة"
صرخت بي لميس "انظري ماذا أحضر بابا!" كانت دمية جديدة.. "أهذه أخت رنيم الجديدة؟"
"أجل! وهي جميلة أيضاً! انظري لشعرها الأحمر!"
تسلسل أبي من خلفي ليجيء مسرعاً بهديتي "مفاجأة!!"
كان عليَّ حينها أن أتفجأ رغم أنه سألني آخر مرة عما أريد.. وكان يبدو بوضوح فاضح أنه سيحضره بالضبط، كنزة صوفية وعليها بعض النجوم في طرفيّ الأكمام.. كم يبدو ظريفاً..
أخذته لأجربه.. كان على مقاسي بالضبط، والنجوم على الأكمام كانت أكثر النجوم لمعاناً في عيني.. ضحكت ورفعت رأسي له، كان وجهه يتراقص شوقاً وحنيناً.. وعيناه شيئاً فشيئاً تمتلئ بالذكريات، لا يود أن يرمش.. كل لحظاته هنا ثمينة، قلت له.. "ألم يحن الوقت للتوقف عن السفر يا أبي؟"
دخلت أمي حينها قائلة أن القهوة والكعك جاهزين.. أريتها هدية أبي ودرت على نفسي دورة كاملة كالأميرات بين تصفيقات الجميع..
خلعتُ الكنزة ووضعتها جانباً.. وخرجنا جميعاً تسبقنا لميس بيديها رنيم وأختها الجديدة التي لم تُسمى بعد..
..
التفت لي لميس بعد أن قضمت قضمتها الأولى من الكعك "الديمة الجديدة.. ما رأيكِ أن تسمينها؟"
فكرت.. ربما لو تركنا أبي يسميها؟ "ما رأيكِ أن يسميها أبي؟"
رحبت لميس بالفكرة لنلتفت لأبي بوجوهٍ تتحرق شوقاً لاسمٍ يهز قلوبنا..
أبي: يبدو قراراً مصيرياً.. اتركوا لي فرصة أشعر بالضغط
لميس: لديك فرصة حتى انتهي من كعكتي..
وكلنا يعرف أن لميس أسرع المخلوقات أكلاً للحلويات.. لا تكاد تلبث الكعكة أو الحلوى في الصحن ثانية.. إلا وهي في بلعوم لميس الثانية الأخرى..
وقف أبي وأخذ يسأل أمي لتساعده.. يبدو أنه شعر بالورطة... وما هي إلا دقيقة حتى وضعت لميس الملعقة لترفع عينيها لأبي الذي أخذ يصرخ بينما يفكر بهلع "وجدته وجدته!! دعيني أشرب كوباً من الماء حلقي جاف"
ذهب للمطبخ وأطال هناك.. حتى سمعنا ضحكته فإذا به عائد بكوب فارغ.. إنه حتى لم يسكب ولا قطرة ماء.. "وجدت الاسم!"
عندها قرع أحدهم الجرس.. قال أبي للميس "انتظري يا حلوتي سأفتح الباب أولاً"
سمعت صوت أبي يرحب بأحدهم، استرقت النظر من خلف الحائط.. كان العم كريم، صديق والدي، والذي يسكن في منزل منحه إياه والدي في نفس شارعنا.. "دعني أحادث زوجتي وبناتي وسألحق بك.. انتظر قليلاً"
أغلق أبي الباب تاركاً العم كريم في الجهة المقابلة بانتظاره، وعاد إلينا بوجهٍ ضاحكٍ بشوش.. "من بالباب؟" قالتها أمي بصوت مضطرب..
"إنه كريم، يقول أنه قد خطط لاجتماع ببعض الأصدقاء الليلة فجاء يدعوني، سأخرج قليلاً.. ابقوا لي نصيباً من الكعكة! لن أغفر لكم إن التهمتموها وحدكم بدوني!" نظر عندها للميس "خصوصاً أنتِ! يا ثقب الحلويات!"
ضحكنا.. ليس لأن نكاته مضحكة.. لكن وجهه وبإلحاحٍ كان يرجونا لنضحك.. كان يبدو آسفاً على تركنا في اللحظات التي نبقى أسابيعاً نترقبها ونتحرق شوقاً لها.. لا بأس عليك يا أبتاه.. سعدُك سعدُنا..
اقترب من لميس وقال "بحثت عن اسمٍ يعجبكِ ويكون لابنتكِ الصغيرة، ففكرت أنه سيكون من الجميل إن اقتبسته من معنى اسمك لذا سأسمي هذه الابنة الحسناء (لين)، أيعجبك؟"
قفزت لميس تحتضنه "يعجبني جداً"
ارتدى نعليه وخرج قائلاً "لن أتأخر إن شاء الله، إن جدّ أمر سأتصل بكم، إياكِ أن تطيلي السهر يا هاجر" قال جملته الأخيرة ضاحكاً وخرج..
..
قبيل الساعة الواحدة فجراً اتصل بنا قائلاً أن هناك أمر طارئ في مكتب الشركة في إحدى الدول، قال أنه سينهي الأمر سريعاً ويعود..
لكن.. مضى شهر ولم أسهر لليلة واحدة، كنت كل يوم أفكر بالعذر الذي سأقوله لأبي عندما يعود في الصباح ليجدني بعينان ساهرتان فاغرة فمي مرهقة أتناول رقائق الذرة بإهمال وعجلة لأتمكن من النوم بدون إزعاج معدتي، فلا أجد، فيدفعني ذلك للخلود للنوم مبكراً.. كما يحب..
لكن هذا الصباح الذي نمت مبكراً لأجله لم يأتي، ولم أجد عذراً فكسرت الوعد وسهرت الليالي الطوال أنتظرك..
عِفتُ الرقائق من كثرة أكلها، ظننت الرقائق ستعيد أبي، حتى السهر الذي يُغضبه لم يعده، نصيبه من الكعك الذي التهمته خلسة ذات مساء، عبثي في الأرجاء مع صبية الحي واللعب في الملعب لوقت متأخر.. لم تعده كل هذه.. ما عساي أفعل إن انطوت السنون على هذا؟ ولا شيء يدفعه فيّ للعودة!، لا بكاء أمي في المطبخ، ولا تمزق يدا لين، ولا عندما أجريت عملية استئصال اللوزتين بعد أن ارهقني انتفاخهما، أخشى أن أبي فقد الاهتمام بنا، ووجد عائلة أجمل، وابنة مطيعة أكثر، أتساءل لو اشترى كنزة لفتاته كذلك؟ ...
مضى شهرٌ آخر.. وآخر.. لا زلت أسهر الليل وأتناول رقائق الذرة على الإفطار، حذرتني أمي من الاقتصار على نوع من الطعام لفترة طويلة، بالفعل.. مرضت لهذا السبب، لكني سعيدة لأني مرضت بالحمى.. وكلما اشتدت وطأة المرض كلما استرخيت أكثر، فعندما يمرض المرء يمر الوقت أسرع، ويقلق من يحبك، ويعود من هجرك، المرض نداء استغاثة، كنت أرجوا كريات دمي البيضاء أن تكف عن الدفاع وتلقي بالأسلحة "عن ماذا تدافعن؟ هذا الجسد يهتوي المرض ويبغيه!"..
استيقظت بعد ثلاثة أيام.. كانت لميس بجواري تحتضن يدي.. ألم يشفق أبي على وجهها الملائكي فيعود؟ جسدٌ بهذا الصغر والرقة لا يملك المرء أن يبعد عينيه عنها.. فكيف بتجاهلها؟ .. "يا صغيرتي المسكينة"
مضت سنة.. وها نحن في الإجازة الصيفية مجدداً، أخذت صفوف الطبخ مجدداً، وصرت أكثر خبرة بخبز الكعك، تعلمت وصفات أكثر، تذوقت نكهات أكثر، جربت وصفات خاصة، زرت جدة إحدى صديقاتي في صف الطبخ ومنحتني كعكة بوصفتها الخاصة وخبزتها لنا بنفسها! فكنّا أنا وأمي ولميس نقتصد فيها أشد الاقتصاد، باذلين جهدنا في تخمين المكونات، لكن محاولاتنا باءت بالفشل، فلا يمكن أن نتلذذ بالطعم ونركز بتخمين المكونات في وقت واحد.. والأولى مقدمة على الثانية بالطبع :)..
بعد إحدى دروس الطبخ المعتادة.. عدت للمنزل بكعكتي المزينة بالتوت وكريمة الفراولة، على كعكة بنكهة الشوكولا "توتٌ لي، فراولة للميس وشوكولا لأمي" نتقاسم كل شيء هنا يا أبي.. وقلوبنا نصيبك..
عندما اقتربت من المنزل كان صوت الصراخ عالياً، ظننت أن أبي عاد وأخيراً! وهذه صرخات أمي والجيران احتفالاً!
لكنه لم يكن كذلك.. كان بيتنا يحترق.. يحترق بكل ما فيه.. بكل ذكرياتنا وألعابنا ورسائلنا الصغيرة، بملابسنا المفضلة، بكل هدايا أبي.. ارتباطنا المادي الملموس بمن أنأتنا عنه المسافات.. أحذية أبي ومكتبته المترعة بالكتب المتنوعة.. ثيابه.. وصدى صوته في الحجرات.. كلهن احترقن...
لقد التهم اللهب البيت الصغير نهاية الشارع.. وهذه خسارة أخرى في رصيدي..
وقفت مرعوبة لم أسطع حينها أن أفكر بشيء.. جلست أرضاً.. وضعت الكعكة بجانبي.. وفتحت يداي الصغيرتان.. ورحت أحدق بها..
-"هاجر!"
صاح صوت أعرفه باسمي.. رفعت رأسي "عم كريم!"
أمسك العم كريم بيدي بقوة وأخذ يبكي "الحمد لله أنكِ بخير" قالها ثلاثاً.. ثم قال "تعالي سآخذك لمكان آمن"
"ومنزلي يا عم؟"
"يهتم بقية الرجال به... تعالي لمنزلي وابقي مع رشا"
كانت رشا أشرس فتيات الحي، لطالما كانت الطرف الذي يبدأ بالشجار، كانت تعويذة الحماية لدى الفتيات الصغار "إن لم تتوقف عمّا تفعل ناديت رشا لتوقفك!"
بالرغم من أنها شخصية يستظل بظلها الضعاف والمحبون، فهي تبدو كدرعٍ، فهي لا تخاف من أحد ولا تتردد.. ولم أرها تبكي بعد شجار، حتى أنها تتعارك مع أعتى الصبية وأكبرهم كتلة "عزام" الذي ما إن يدخل حديقة الحي يتناثر الصغار في كل مكان عدى أن يكونوا فوق الألعاب.. خشية أن يشتهي عزام اللعب بها ثم ينالوا ما ينالوا من طيشه وعبثه..
دخلت لمنزل العم كريم، صاح برشا وجاءته راكضة.. فلمّا رأتني أسوَدّ وجهها وانكمش، لابد من أنها تكرهني..
أمرها العم كريم بقضاء الوقت معي حتى يأتي لأخذي لاحقاً، ثم أخذها بعيداً عني قليلاً وهمس "عامليها بشكل جيد، سأمنحك حلوى إن أحسنتِ الصنع" قالها وهرول مسرعاً للخارج.. وأغلق دوننا الباب.. لتفِدني رشا بابتسامةٍ لم أرى أقبح منها قط.. بل لم أظن أن هناك ابتسامة قبيحة فضلاً عن أن أراها مباشرةً.
قضت رشا معي المساء بطوله كان مساءً غريباً، كانت لدي مشاعر مضطربة غير مفهومة، لست أدري لمَ أنا هنا؟ ولمَ ألعب مع هذه الخرقاء التي لا تنفك عن فرك يدها ولعق شفتيها بنظرة غريبة في الفضاء.. لا بد أنها تتخيل لحظة التهامها للحلوى، مالذي يجلسني هنا؟ لمَ علي الرضوخ لأوامر العم كريم؟ كيف يهنأ لي اللعب.. لم يهنأ لكن كيف استطعت إمضاء ثلاث ساعات وأنا أبعد عن منزلي خمس دقائق.. وآخر ما أتذكره عنه رقصه تحت النيران شديدة الحمرة بدخان أسود كليل أبي!
قررت التسلل من منزل العم كريم، يجب عليّ أن أرى منزلنا!، أن أعرف حال لميس وأمي!، برغم أن رد فعلي في غاية البطء لكن.. كان استيعاب أن حريقاً اندلع في منزلي.. تقبل كل احتمالات الخسارة.. أمر استدعى حالة عقلية هادئة، في الواقع لم يهدأ عقلي لكن استلزم عليّ مواجهته بالحقائق! لست طفلة صغيرة لتبقى هذه الأمور سرًّا عني! أنا في الثانية عشر من عمري الآن!
تغافلتُ رشا وأخبرتها أن تصنع لي بعض الشطائر وأن الجوع بلغ مني مبلغه، اكتشفت حينها أن رشا فتاة طيبة سهلٌ خداعها، دخلتُ معها المطبخ واسقطتُ بعض الصحون والملاعق المتسخة مما دفعها للتنظيف والانشغال التام عني "يمكنكِ الجلوس عند التلفاز سأنظف هذا بنفـ..." ليقطع حديثها صوت إغلاق باب المنزل.
يبعد منزل العم كريم عن منزلي مشياً سبع دقائق تقريباً، ولو ركضت سيقلص هذا من الوقت للنصف..
"متفحم".. أول كلمة تبادرت لذهني..
أخمدوا الحريق وتم السيطرة عليه من الانتشار للبيوت المجاورة.. لكن بيتنا انتهى تقريباً.. لا أحد بالجوار..
لا بد أن لميس وأمي في أقرب مستشفى من منزلنا.. يبعد عن منزلنا 15 دقيقة تقريباً.. وقفت عند الشارع الرئيسي وأوقفت سائق أجرة "إلى المستشفى العام من فضلك!"
ليلتفت إلي كهل في الخمسين من عمره تقريباً مبتسماً "أتملكين نقوداً؟"
-"أيكفيك 30 ريالاً؟"
-"يكفي"
مددت له المال.. الذي استعرته من صندوق أموال رشا في حجرتها التي لعبنا فيها.. سأردها لكن الحالة طارئة الآن!
وصلت للمشفى.. أنا خائفة من الدخول.. ماذا لو كانت أمي ميتة؟ ولميس بجوارها تبكي؟ .. ماذا لو كانت لميس كأمي.. وأنا من ستبكي؟.. أنا خائفة من اكتشاف الحقيقة!
من تهمهُ الحقائق المؤلمة على كل حال؟ يكفي خسارات.. لكن.. قررت التراجع..
استدرت لأرى سائق الأجرة الخمسيني "أستعودين؟"
"لو كان بإمكاني لعدت لصباح اليوم"
ابتسم وأجلسني في مقعد بجوارنا ثم قال "وماذا ستفعلين حينها؟"
"سأهرب مع أمي ولميس"
-"من ماذا ستهربون؟"
"من النار التي ستحرق منزلنا"
-"لكنك لا تستطيعين العودة.. كل ما نملكه يا صغيرتي هو التقدم"
"لكني خائفة ربما لا نتحسن مهما تقدمنا!"
ضحك سائق الأجرة وقبض على يدي "تعالي لنرى أينا المحق!"
دخلت للمشفى.. وقفنا عند موظف الاستقبال في قسم الطوارئ وبصوتٍ ينتفض سألتهُ "نوف محمد ولميس سعيد.. أأجدهم هنا؟"
-"ثواني من فضلك"
وبعد مائة وخمسة وثمانين ثانية قال "موجودين" وأشار لممرضة مارة أن توصلنا على طريقها..
لتدخلني لغرفة جانبية تجلس في زاويتها امرأة وصبية.. بل أمي ولميس!
الممرضة: "تعرضتا لنقص حاد في الاكسجين جراء الدخان.. ليس أكثر من اختناق، وحالتهما بسيطة، سمعت أنهما خرجتا من الحريق سريعاً.."
ما إن أكملت الجملة حتى ركضت إليهما، كيف كنت على شفا أن أتعثر بصخرة ضخمة وها أنا أقفز من فوقها؟...
اقترب سائق الأجرة ضاحكاً "أرأيتِ؟ كل الخير فيما خبأه الله"
بعد دقائق وصل العم كريم مع رشا ونَفَسهما يكاد ينقطع، اعتذرت منهما وعدنا جميعاً مع العم كريم.. في طريقنا أمسكت لميس بيدي "أعاد أبي بينما كنا في المشفى؟" ألا تأتي يا أبي فتجيب هذا الثغر المرهق من كثرة السؤال؟
...
نمنا تلك الليلة في منزل العم كريم، سرير واحد يجمع ثلاثتنا أنا وأمي ولميس، ليلتها حَلُمتُ بحلمٍ غريب، كانت أمي تبكي في وسط غرفة بيضاء، الكثير من الدمى المحشوة تملؤ الغرفة، أحاول أن أقترب منها لكنني لا أستطيع، فجأةً تندلع نارٌ عظيمةٌ فتحول بيني وبينها... ثم استيقظ هلعة!
استيقظت قبل أمي ولميس وخرجت متجهةً للطابق السفلي تلبية لنداء العطش، سكبت الماء وجلست في مقعد جانبيّ.. وبعد أن عاد إلي صفاء بصري إذا بي أدرك أن باب الثلاجة مفتوح.. ذهبتُ لأغلقه.. "رشا؟!" هذه الفتاة.. إنها تزعجني أكثر فأكثر، وتبدو ضعيفة الحيلة والتدبير وإلا من سيفتح باب الثلاجة وينام على ضوءها؟؟!
ايقظتها "رشا.. رشا استيقظي قبل أن يدركنا أحد فنوبخ!"، لكنها مهما هززت فإنها لا تدركني فتستيقظ! مزعجة! استيقظت بعد هزها ونكزها والصراخ فيها لمدة عشر دقائق.. أكاد أقسم أن محتويات الثلاجة قد فسدت وجهاز التبريد يكاد ينتحر!
وقفتْ بسرعةً محاولة تحسين شكل شعرها الذي ما إن حاولت تهذيبه إلا وتخرج شعره ثائرة خليفة لمن أُخمدت ثورتها، ضحكتُ.. رغم بلاهتها فهي تبدو ظريفة في محاولة أن تبدو في حال جيدة أمامي..
ضحكت من ورائي.. ثم افترقنا، ذهبت لأوقظ أمي ولميس الغارقة في أحضانها..
حسناً .. نحن الآن نسكن مؤقتاً مع العم كريم وهو كما ذكرت صديقٌ لوالدي منذ وقت طويل، ويسكن في منزلٍ يملكه والدي بالأصل، لكن لبعض الظروف العارضة مكث فيه العم كريم، ومنذ ذلك الحين ووالدايَ يدفعانني نحو رشا كما يفعل والداها ذلك، لكن خطتهم بأن نصبح صديقات لم تفلح..
فرشا لا تشبه شخصيتي البتة، نمتلك اهتمامات مختلفة، لا شيء يربطنا، حتى طرق تفكيرنا مختلفة.. لم أحب رشا على الرغم من مرور الوقت وكثرة اللقاءات وعيشنا في الحي ذاته..
لا أحب فكرة أن يتزعم أحدهم الفرق ويقود الحروب مع الصبيان، وخصوصاً مع عاصم ابن صاحب محل الحلويات فلطالما كان عاصم فتى هادئ متجنب للمشاكل بغض النظر إن ظُلم فريقه أو لا، عاصم فتى ذكي يكثر من القراءة على الرغم من خروجه للملعب معنا، فيبقى جالساً في المقاعد الجانبية يقرأ حتى غروب الشمس، فيعود أدراجه للمنزل كما نعود..
تحدثت مرة معه أسأله ماذا يقرأ؟ ليلتفت لي بعينان لامعتان وأخذ يتحدث عن الكتاب وتصنيفه، واسم الكاتب ومؤلفاته التي أُعجب بها، وفجأة بدون أن أدرك إذا بي أغرق معه في عالم الكتب.. لا أدري لم كانت سمعة الكتب والقراءة عندي مشوهة مشوبة غير واضحة!، بالرغم من أن أمي قارئة نهمة، وأبي في محاولةٍ لخلق مكان ومختلىً لأمي فقد بنى حجرةً كاملة وملأها بالكتب، وأحسب أن أمي ليست القارئة المهووسة الوحيدة وظني أن أبي قد يفوقها ولعاً بالكتب لكن انشغاله بالتجارة والسفر أغفله عن هذه المُتع..
بعد ذلك.. أصبحت أتبادل مع عاصم الكتب، نكتب تعليقات على بعض الصفحات، يكتب لي رسالة نهاية الكتاب يسألني عن رأيي بالكتاب، فتى لطيف كهذا أتساءل لما تهاجمه رشا وتنعته بالجبْن في كل عراك على الرغم من تجنبه العراكات! خصوصاً عندما يكون الأمر نزاعاً جسدياً، يرى عاصم كما قال لي مرة "أظن عراك النظرات والتصرفات الهادئة الموجعة أقوى وأذكي من الصفعات والركلات التي يتبادلها هؤلاء الحمقى"، هذا كان معززاً لتقييمي المنخفض عن رشا..
لذا أنا اتجنبها وأفضل الجلوس مع عاصم للقراءة أو التحدث عن الكتب..
لكن.. مؤخراً انتقلت فتاة تدعى "ريف" لحينا، فتاة جميلة لديها شعر ناعم حريري، بوجنتان حمراوان، وعندما تضحك ترقص الطيور على أنغام ضحكها، ترتدي فساتين ناعمة حريرية بطبعات ورود أو قلوبٍ صغيرة، تبدو كفتيات الحكايات التي أقرؤها..
في أيامها الأولى عمّ الهدوء أرجاء الحي، لم يتعارك أحد، ولم يسرق هادي البوظة من الأطفال، ولم يصفع عزام أحد، وحتى عاصم الفتى الذكي كفّ عن مطالعة الكتب، نهرته مره أنني سأسبقه وأنهي كتابي قبله فقال "قرأت الكتب لأرى ما لا أتمكن من إحاطته بنظري في حياتي، لكن من يهتم بالكتب إن وصلت المعجزة لتقف أمامي؟"
إن رشا محقة.. كل الفتيان حمقى، بذكر رشا.. فإنها الوحيدة التي لم تتأثر بقدوم ريف للحي، رشا لم تتأثر قط بمن يرحل ومن يبقى، فكرت يومها مالذي سيدفع دموعها بالانهمار؟ فلم أجد!
..
قررت أمي أن نمكث قليلاً عند العم كريم ريثما يتم إصلاح الأضرار التي لحقت بمنزلنا، الدور العلوي فارغ انتقلنا له بينما العم كريم وزوجته ورشا يعيشون منذ البدء في الدور الأرضي..

في الصباح الباكر خرجت أتجول متجهة للبقال، وفي طريق العودة توقفت خطاي أمام منزلي تفحصته سريعاً، لم يتأثر كثيراً سوى المطبخ وغرفة المعيشة بجوار المطبخ، هذا يعني أن الإصلاحات لن تأخذ وقتاً طويلاً..
هممت بالعودة لمنزل العم كريم.. لا يجب عليّ أن أتأخر قد يقلق هذا أمي والعم كريم.. عندما انتصف الطريق وفدتني رشا لاهثة يكاد نفسها ينقطع من شدة الركض.. ضحكت لحماستها "ما خطبكِ؟"
رشا: قلقت عليكِ! خشيت أنك تعرضتِ لأمرٍ ما..
ضربت على كتفها "صليت الصبح وقرأت الأذكار والله الحافظ، هيا بنا للمنزل"
رشا: ماذا اشتريتِ؟ اشتريتِ لي شيئاً؟
حينها نسيتُ أنها صارت من ضمن الأهل الذين أعود للبيت إليهم.. اعتدت أن ابتاع للميس عندما أذهب للبقال.. نسيت رشا.. لأنها لم تكن أبداً ضمن دائرة اهتمامي.. انسللت من هذا السؤال وركضت للمنزل "سنتأخر وقد يستيقظ أحد ويفقدنا!"
في مساء ذلك اليوم عاد العم كريم من عمله بثلاث كعكات مقلية (دونات) محشوة بالكريمة الصفراء ومغلفةٌ بالشوكولا "يا صغيرات! اجتمعن حولي!" مسح رأس لميس وقبّل جبينها، قرص خدي وقبّل وجنة ابنته رشا، ثم أجلسنا ومنح كل واحدةٍ نصيبها وهو يقول "نحن الآن عائلة واحدة".. لتلعثمه لميس بسؤالها..
لميس: أهذا لأننا في بيت واحد؟ ماذا لو عدنا لمنزلنا؟ ألن نستمر بكوننا عائلة؟
العم كريم: أتريدين أن نستمر بكوننا عائلة؟
هزت لميس رأسها بالإيجاب وقالت بحيوية "أجل!"
العم كريم: إذا سنكون كذلك!
..
لطالما كان العم كريم رجلاً لطيفاً شهماً، فمنذ اللقاء الأول بيني وبينه كان يمسح على رأسي قائلاً أنني أذكره بأيام صباه وفتيات الحي في أيامه، ذات لقاء قال لي بعد أن انصرف أبي ليحضر بعض الشاي، أنه كان من أشهر الفتيان في حيه، ومن أوسمهم، حتى أن الفتيات كن يتقاتلن ليكن في فريقه في لعبة كرة القدم، حتى انتقل أبي لذات الحي فاشتدت مباريات الحب وصارت حرباً نفسية أكبر من حرب نقاط ومباريات كرة قدم، فقال العم كريم معقباً رافعاً رأسه "لذلك أصبحت صديق والدك، والتصقت به كالغراء كما التصق بي.. أخشى أن تتشتت الأمة عندما ترى شمسين في سماءها!" ليدخل أبي ضاحكاً فيقول "لا تهتمي لقصصه الكاذبة يا هاجر، منذ صباه وهو ينسج قصصاً مشكوكٌ في مصداقيتها"
شارك العم كريم الضحك مع أبي.. لأرجع أنا الأخرى للخلف وأسند ظهري للحائط وقلبي ممتلئٌ ويرجو ويتمنى أمنيةً واحدة بكل صدق يحتويه هذا القلب "أرجوك يا إلهي.. أن تمنحني صداقةً مثل هذه، بلطفها بصدقها بحجم الحب والتضحية فيها، صداقة تنمو معنا يوماً تلو يوم.. يكبر الحب ونتعاهد العهد كل حين لنجد قلبينا كما كانا عند كتابته"
لكن على الرغم من أمنيتي هذه فإني لم أكن شغوفة بالعلاقات، لم أسعى لأحدٍ سعيَ اللاهثين، ولم أهرول هرولة المعجبين، كنت اعتقد اعتقاداً حقيقياً أن صديقتاي في الصف سيكفيانني، لكنني كلما وصلت للمنزل هرعت للثلاجة بحثاً عن الماء، أحبهن.. لكنها ليست الغاية.. لا زال.. لم أجد بغيتي، لكن الخوف كان يطبق علي، ذلك الخوف الذي لا يمنحني شرف المحاولة ولا شجاعة المرة الأولى، فكأنما كنت مقيدة بصويحبات الظروف الحالية، كنّا ثلاثتنا نختلف في أغلب الأشياء.. لنتفق في الدعابة، نتحدث عن الكتب لأعود عصراً لعاصم محملةً بقصصٍ جديدة أرويها عليه، كنّا نتحدث عن الحياة بإطارها العام المترهل المهمل الذي لم يكن ضمن اهتماماتي.. ولن يكون، مع أننا لا نكاد نتوقف عن الثرثرة.. إلاّ أن هناك فراغ في صدري.. شيءٌ كثقب في رئتي تهرب منه كل محاولاتي لتمرير هذا الأمر..
كانت رشا من زملاء الصف كذلك، كنت اتحاشاها كما أفعل في الملعب عصراً.. كان لدى رشا صديقات كثر.. لكنني كثيراً ما رأيت ملامح عدم الارتياح تعلو وجهها، ما يجعلني أتساءل "على الرغم من العدد الكبير من حولها.. لم تسكن نفسها لأحد.. وقد بلغ الأمر مبلغه حتى لا تستطيع إخفاء تعبير عدم الارتياح هذا؟" ما جعلني التفت لصديقتاي فاقنع بهما أكثر.. ما نفع التعدد في العلاقات إن كنت لا أسكن لأحد؟ سيزيدني هذا تشتتاً..
..
من فتيان الحي الذي ذكرتهم سابقاً الطاغية "عزام" وصديقه الذي لم يقتبس من نور اسمه ولا من طبعه "هادي"، هذان الاثنان لطالما أثارا دمي وعقدا حاجباي وقطعا كثيراً من جلسات نقاشي مع عاصم، لكنني مع ذلك لم أدخل في عراك مباشر معهم، بل كنت أتسلل للخطوط الخلفية في فريق الفتيات فأداوي المصابين وأحملهم للمقاعد الجانبية أو خلف دورات المياه العامة حتى تهدأ رحى الحرب فاطلقهم ونعود كما كنّا..
وفي الصفوف الأولى كانت تتقدم قائدة القوات النسائية رشا، لتبارز عزام قائد قوات العدو، فينتهيان بإعادة البوظة التي سرقها هادي من سمر، وأن تعيد عبير حفارة الرمل لمهند..
لكن لم تنتهي المواجهة! كلا! بل صفق عزام ليهرول له حاتم بورقة وقلم، لتصفق رشا هي الأخرى ليؤتى بحبر طباعة، فيوقعان عقداً للصلح الذي سينقضونه في اليوم التالي، ليوقع كلاهما ويختمان بإصبعيهما على العقد، فيصفق عاصم مباركاً الصلح فتستدير كلتا القوتين ليعودا لمناطقهما في ساحة اللعب..
إنه مشهد يومي هنا.. لكن أسباب الخلاف تختلف في كل مرة..
رغم معارضتي وكرهي لموقف رشا وتزعمها للأمور، إلا إنني معجبة بكونها تحرر ما يدور في عقلها لواقعٍ نراه، فتوقف ما لا يعجبها، وتنطق بكلمة حقٍ دارت في خلدها، بالعموم.. إن شخصيتها مثيرة للاهتمام..
..
بعد قضاء ليلتين في بيت العم كريم، تبدو الأمور هنا أفضل من الذي توقعته، كان الجو مريحاً ظريفاً، أوقات الوجبات دائماً ما تضحكنا لكون العم كريم يتناول طعامه لوحده في الغرفة الجانبية للمنزل، فنذهب أنا ورشا لمواساته فنتناول الطعام ثلاثتنا ليحكي لنا بطولات صباه التي قال أبي فيها "بطولات لم ترى النور يوماً" فيضحك العم كريم كلما قلت هذا له محاولةً جعل صوتي خشناً كأبي..
..
ذات مساء في ملعب الحي كعادتنا، رشا تذود حول الفتيات عن عزام وحزبه، وهادي يتصيد الصغار ليخطف البوظة من بين أيديهم على حين غفلة، وعاصم كما اعتاد جالسٌ يقرأ وعيناه لا تكاد تُرفع عن الكتاب، شيءٌ واحدُ فقط يذهله عمّا كان يفعل ليرفع عينيه عن صفحة الكتاب..
ريف: يا أصحاب! أمي صنعت بعض الكعك!
هذا يا ريف يبدو كنداء حرب لا نداء سلام، كل السلام احتكره حسن وجهك، ورقيق منطوقك، واتقان خلق الله في عينيك، لدرجة أن عاصم مثقف هذه الساحة لم يتمالك نفسه ولم يعر صبغة الثقافة فيه اهتماماً.. فراح يركض كركض هادي وعزام ومهند ليقاتل مع هؤلاء المعاتيه على كعكة بحجم الكف..
التفتُ لأرى رشا وهي واقفة تنظر إليّ، على الرغم من أننا نعود لذات المنزل في هذه الفترة.. إلا أننا منذ أن نصل لساحة اللعب نفترق.. فكلٌ له متعته في هذه الساحة الواسعة..
تومئ رشا لي "أنذهب؟"
فأجيبها بالإشارة "إلى أين؟"
فتشير رشا لريف "للكعك!"
توقفت قليلاً عن التفكير.. أهي تهتم بي الآن وتراعي مأكلي ومشربي؟ ضحكت لتساؤلي.. ربما هي تشعر بأنها مسؤولة عني لأننا نعيش سوياً.. أشرت لها بالإيجاب فاقتربت وأمسكت بيدي "لنسرع! قد ينفذ الكعك!".. لكن يدي..
أخذنا الكعك واتجهنا للمنزل.. كانت الشمس تكاد تغرب وهذا يعلن لكل الصبية أنه حان وقت العودة للمنزل، ودعني عاصم ومنحني كتاباً قائلاً "أتمنى أن تنتهي إصلاحات منزلك عمّا قريب، خذي هذا الكتاب سيسليك، إنه ممتع! أضمن لكِ استمتاعك به!".. عاصم فتىً متأرجح غريب.. يوماً أراه أعقل الصبية وأكثرهم لطفاً، ويوماً أراه يركض بطيش عزام وهادي..
تناولنا الكعك في طريقنا للمنزل، على غير المتوقع كان كعكاً لذيذاً ما دفعني أن التفت لرشا قائلة "لنصنع كعكاً!" ليتجمد وجه رشا لثوانٍ ثم يسفر عن ضحكة مبهجة بعد ذلك وهي تقول "ظننت أنه لن يعجبك! لكن أنظري.. لقد أثار حماسك للعودة للخبز!"..
عدنا للمنزل وبدأنا بتحضير المكونات بعد أن أشعرنا أمي وأم رشا بالأمر فجاءتا معنا للمطبخ ليشرفا على الفرن بينما يشربن بعض الشاي..
كان من الظريف والممتع خبز الكعك وتزيينه مع رشا، لديها حس فكاهة عالي مما جعلني لا أنفك عن الضحك، شاركتنا لميس في تزيين الكعكة، في تلك الأثناء صنعت والدة رشا القهوة، لنجتمع سوياً على كعكتنا أنا ورشا، وعندما أخذت أمي ووالدة رشا القضمة الأولى كادت عينا رشا وعيناي أن يخرجا من محاجرهما من شدة حماسنا لتقييمهن.. هن الطاهيات العظيمات!
ليضحكن لنا ويصفقن ويقلن بالتناوب "لذيذة!" "هشَّة وحلوة!"، لنقفز أنا ورشا مباركاتٍ لنجاحنا الأول!، ليدخل العم كريم للمنزل فيصيح بنا "ما بكن؟! أهناك خطب؟!"، فتركض له رشا تخبره بالأمر وأنا أهم بالسكين أقسم نصيباً للعم كريم من كعكتنا الأولى!
هاجر: تفضل يا عم، هذه كعكة خبزتها مع رشا وساعدتنا لميس بعض الشيء
رشا: تذوقها وأخبرنا رأيك
العم كريم: حسناً حسناً..
ليمد ملعقته فيقطع لقمةً ليلتهمها.. ثم بدأت ملامحه بالعبوس! ونور وجهه بدأ بالتلاشي ليعقبه غروب!، لتهلع كلتانا خوفاً وقلقاً! فيرفع بصره لنا بنظرة حادة.. فينكسر سيفها ليضحك بشدةٍ على تعابيرنا.. لننقض عليه ضرباً لتخويفنا "آسفٌ آسف أردت مداعبتكما"..
..
إننا بخيرٍ يا أبي، نزاحم هذا القلب بالأفراح لنطرب ساكنيه، نحبك ونشتاق لك، لكن هذه المسافات تحول بيننا وبينك، تمزق ما تبقى من جلد المرء وصبره، تشتت ما جمع المرء من قوة وثبات لتنهار كل مبانيه بهزة لا يكاد يشعر بها الواقف فضلاً عن مفترش الأرض..
يا أبي.. إن لميس لا تنفك تسأل أمي عن موعد عودتك، وأمي لا تنفك عن السرحان، وكلما استدعيت انتباهها رأيتك في عينيها.. نحبك كثيراً
..
في حجرة رشا التي أقضي فيها أغلب وقتي لما يبعث في قلب أمي شعوراً بالراحة للعبي مع رشا، رغم أن رشا تكون مشغولة بالرسم وبعض الأعمال اليدوية، وأنا أغرق في الكتب بين يدي، ذلك اليوم كنت أقرأ كتاب عاصم الذي أعارني إياه، لتسألني "أهذا كتاب عاصم؟"
هاجر: أجل، منحني إياه قبل أيام، ولتوي أتفرغ لقراءته..
رشا: بذكر الفراغ، كيف حال صفوف الطبخ؟
هاجر: اوه تلك، يوم احترق منزلي كان آخر صف..
رشا: وماذا فعلتم بما أنه آخر
هاجر: كان تطبيق نهائي، كل واحدة منا صنعت كعكة بشكل حر
رشا: وماذا صنعتِ؟
هاجر: كعكة ليمون، وغطيتُها بخليط أبيض، وزينتها بورق نعناع وشرائح ليمون..
رشا: وااه! تبدو لذيذ!، ضاعت في ذلك اليوم صحيح؟
هاجر: أجل، أظنني تركتها ي الشارع..
رشا: .. أنصنع واحدة؟
هاجر: الآن؟!
رشا: لا أظن أن أمي ستسمح لنا اليوم.. ماذا عن الغد؟
هاجر: جيد..
..
انتهينا على أن نشتري احتياجات الكعكة بالغد ونصنعها سوياً، ثم عدنا لما كنا عليه.. وفتحت كتاب عاصم لتسقط ورقة صغيرة من جوفه كُتب فيها
"لا تظني أن ريف الفتاة اللطيفة قد تغلبك، لكنه ذهول لحظة"
انتفضت من مكاني كما لو أني صعقت بالكهرباء! دُهشَت من تصرفي رشا وصاحت بي وأنا خارجة "ما الأمر؟!" لأجيبها عجلةً "تذكرت أمراً أنجزه!"
عدت لحجرتي في الطابق العلوي ووقفت أمام المرآة أنظر لوجهٍ كستهُ حمرة وفضحت مشاعره جملة، درت حول نفسي محاولة تخمين قصده من تلك القصاصة؟ أيكن لي المشاعر؟ أم أنها مجرد.. "مجرد ماذا؟"
جلست في الأرض محاولةً للتوازن واستقرار التفكير.. جذبتُ لي ورقة وكتبت فيها..
"لا أعلم مالذي قصدته بأن تغلبني ريف، لكنني لست في منافسة مع أحد ولا يهمني أمر ريف أو غيرها" .. أليست قاسية نوعاً ما؟ مزقتها وكتبت أخرى..
"كيف علمت بذلك؟!" .. وهذه ضعيفة كاشفة لشعوري بشكل باهت..
وأخذت أكتب وأمزق عدة مرات..
حتى استقررت على أن أكتب له ..
"إنه لمن اللطيف أن تقلق حول شعوري، وليتك يوم عَلمت كَففت"
وبعجلٍ طويتها وخبأتها، وفتحت كتاب الأربع مائة صفحة فالتهمته كما يلتهم الصائم طيّب الطعام..
وغداً.. أعدت له الكتاب بقصاصتي التي كتبت، وعدت للمنزل فوراً يومها، خشيت أن أظهر وجهاً لم يعتده الصبية فينفضح أمري..
..
بعد الثامنة مساءً خرجت لشراء بعض البقالة.. كان عاصم واقفاً متردداً عند الباب، فور أن رآني استقام واقفاً كما لو كنت رئيسه في الجيش!
عاصم: هاجر رسالتكِ.. قرأتها!
هاجر: وأنا كذلك قرأت خاصتك..
عاصم: إن كان يزعجك ما فعلتُ سابقاً، فأنا هنا لأعتذر..
أجبته وأنا أحكُّ قدمي في الأرض في محاولةٍ لإلهاء نفسي "حسناً"
عاصم: إلى أين أنتِ ذاهبة؟
رفعت رأسي: للبقالة
عاصم: في هذا الوقت! ووحدك! أخبريني ماذا تحتاجون وسأحضره لكِ
هاجر: إن كنت قلقاً فرافقني
وبالفعل رافقني عاصم للبقالة، ابتعت ما طُلب مني، ووقفت أمام رف الحلويات لآخذ حلوى الطريق كما هي عادتي وحلوى أخرى للميس...
عاصم: لمن الثالثة؟
هاجر: لرشا.. أتود واحدة؟
عاصم: كلا.. سآخذ عصيراً
علمتُ يومها أن عاصم يحب عصير الكيوي والليمون، أخبرني أيضاً أنه يفضل نكهة المانجو لكنه لم يكن متوفراً فقال ضاحكاً "ذوقي رائج!"
..
بعد ثلاثة أسابيع من الكارثة انتهت إصلاحات منزلنا الذي كان العم كريم يشرف عليها بنفسه، شكرنا العم كريم وزوجته، ودّعت رشا، وخرجنا من منزلهم نسير بخطىً حثيثة نحو منزلنا قالت لميس وهي تداعب دميتاها "هانحن عائدون من عطلة العم كريم لمنزلنا الأصلي!" .. هل استمتعت لميس في بيت العم كريم لهذا الحد حتى تسميه عطلة؟
بينما نسير أمسك أحدهم بيدي فالتفت مرعوبة!
هاجر: .. رشا؟ أفزعتني!
رشا: أعتذر لذلك.. أردت إعطائك هذا..
مدت لي صندوقاً صغيراً يبدو مهترئاً لكنه جميل مع ذلك، ترددت إن كان عليّ فتحه أمامها أو في منزلنا؟ التفت لأرى أمي ولميس واقفتين ينتظرانني.. "شكراً لكِ، سأفتحه في المنزل أمي ولميس ينتظران" ودعتها للمرة الثانية وذهبت.. إنها فعلاً فتاة غريبة ولا يمكن توقع تصرفاتها..
أخذت الصندوق وحشرته في حقيبتي..
بعد دقائق من المشي لاح لنا منزلنا من خلف الأشجار الكثيفة في حينا ..المنازل ذات القِباب والأسورة المرتفعة.. "يااه" قالتها أمي وبثت الطمأنينة في قلبينا..
دخلت غرفتي يومها وسقطت نائمة بكل فوضوية حملها عقلي واكتنزتها شرايين فؤادي، حلمت ليلتها أنني في غابة كثيفة الشجر، أسمع هديل الحمامة وغناء الطيور.. وكان أبي جالسٌ بوقارٍ أمامي يبتسم ويقول "أيا هاجر ألا تكفين عن الأحلام؟" أجبته "إذا حققت الأحلام.. وامتثلت أمامي" ضحك وقال "أفعل أفعل"..
استيقظت لأرى الساعة تشير للواحدة ظهراً.. لقد استغرقت في النوم.. أشعر برأسي مشوش فوضوي لا يعي، غسلت وجهي وأعدت ترتيب حجرتي، لتقطعني رائحة طعام لذيذ، رميت كل ما بيدي ملبية النداء متجهةً للأسفل..
عندها سمعت صوت ضحك لميس، وصوتٌ أجشٌ يضاحكها، اضطربت قليلاً.. وخففت من سرعة خطواتي.. حتى تراءيت لهم فصاحت لميس "هاجر هاجر أنظري من جاء!"
وقف واتجه نحوي وهو يقول "أهلاً بابنة أخي الجميلة!".. ظننت الحلم سيحملك إليّ يا أبي.. لكن جاءتني ريحك مع عمي..
أجلسني عمي وسألني عن أوضاعنا وكيف حالنا بعد الحريق فأخذته في جولة حول المنزل بعد أن ألح عليّ "قلقٌ عليكم يا صغيرتي، طمئني قلبي".. أخبرني حينها أن العم كريم كان يتصل به ويخبره بحال المنزل، وأنه كان يزور منزلنا في بعض الأحيان ليشرف مع العم كريم على الإصلاحات، لكنه كان خجلاً من رؤيتنا وهو لا يملك أن يقدم لنا أو يجيبنا على اسئلتنا فتأكله نظرات الخيبة من أعيننا..
بعد أن عدنا لمجلسنا وسكبت له القهوة أمسك بيدي وقال "هاجر يا ابنة أخي، لقد أصبحتِ شابة كبيرة يمكنها أن تحمي من تحبهم، وتتصدى للصعاب وتغلبها، صحيح؟"
هززت رأسي وعقلي يرتعب من نهاية الحديث ومن مقصده...
"والدكِ يواجه بعض المشاكل المادية في مكتبه في تلك الدولة التي قصدها آخر مره.."
بعد أن ابتلعت ريقي قلت له وعيناي ترتجفان "وماذا يعني هذا؟"
"أي أنه سيطيل المكوث هناك، وبعث بي إليكم أنبئكم بالخبر"
سمعت صوت سقوط أمي من خلف الباب، استمرت بالتساقط.. أجسادنا والدموع وأحلامنا.. بعيدٌ أنت يا أبي.. لا تطالك الأيدي ولا الأصوات..
..
قبل أن يخرج عمي احتضنني بقوة وقال أنه سيمر علينا كل شهر، وأخبرني أن أتصل به إن حدث أمر ما..
ثم حشر ورقة في جيبي وهو يقول "إقراءيها"..
تناولنا عشاء تلك الليلة تحت غمامة سوداء لكنها لا تمطر، تمنعنا نور الشمس تمنعنا عليل الهواء.. تحبسنا وتحبس عنا.. ساعد هذه القلوب الحيرى يا رب..
رغم أن أبي كان يسافر كثيراً ويغيب عنّا أسابيع، لكن أن يؤخذ منّا بهذه الطريقة، أن يمنع عنّا لسوء تأكدت بأنه أصابه، وسنةٌ قد ضاعت بين هذا وذاك.. وا وحدتاه يا أبي..
بعد العشاء حملت أمي لميس لحجرتها.. غلبها النوم المسكينة وأضناها البكاء بلا هدى ولا فهمٍ للأسباب، صغيرة يا لميس.. صغيرةٌ جداً على كل هذه الأحمال..
وقفت أمام مرآة حجرتي.. "وأنتِ أيضاً، تتطاولين كبراً وقلبكِ غضٌ بعدُ صغير"
لم أحلم ليلتها بشيء.. هذا لأني لم أنم، انفلق الصبح ونهضت بثقل عن سريري أجرّ أقدامي وكأنما ثبتت في الأرض بمسامير، بدلت ثيابي.. خلعتها ويا ليتني أخلع الأحزان بهذه السهولة، أخذت ثيابي لغرفة الغسيل فسقطت ورقة.. التقطتها وفتحتها محاولةً نفض عقلي المنهك لتذكر متى وضعتها في جيبي؟
فور أن قرأتُ السطر الأول وقعت أرضاً..
"إلى حبيبتي هاجر يكتب والدك هذه الرسالة راجياً أن تصلكِ..
أحببتكِ وأنا لم أركِ، أحببتك من شاشة جهاز السونار، رق قلبي لصوت نبضك، أحببتكِ حتى قبل اكتمال خلقك، وفي يوم ولادتك اتصلت والدتكِ بي اتصالاً دولياً قائلة أنكِ خرجتي من أحشائها الضيقة لهذه الدنيا الرحبة الفسيحة، وقالت أنكِ فتاة... سجدت شكراً يومها... أن آتاني الله وردة في يدي، عندما ركبت الطائرة متجهاً للوطن بكيت كثيراً عندما أعلن الكابتن أننا على وشك الوصول لوجهتنا، ارتبكت المضيفة ظنت أنني حزين! لم تعرف أنها ذروة أفراحي، عندما دخلت المنزل ألقيت بجسدي على الأريكة من شدة الانهاك، بعدها بثوانٍ علا صوت صياحك.. انتفضت من مكاني.. "أي أعزوفة هذه التي أسمعها؟"، هرعت مجيباً النداء لأراك مستلقية على دثار أبيض وتتقلبين وتزمجرين ووجهك عبوسٌ متضايق، "لقد وصلت يا حبيبة أباكِ"، حملتكِ فتوقفت الأغنية.. قبلت جبينكِ ففتحتِ عيناكِ، "هاجر" ناديتكِ باسمكِ الذي قررتُه لحظتها.. لتقابليني بضحكة.. أي الأزهار هذه التي بين يدي! لن يتمكن أي عالم نبات من تصنيفها! إنها أم الورود إي وربي!
كبرتِ بين غمضات عيني، عندما بلغتِ السابعة وانضممتِ للمدرسة، كان يومكِ الأول يوافق موعد وصولي من رحلة أخرى، بحسب تقديراتي كنت سأصل المنزل قبل موعد المدرسة بساعة، عندها سأوقظكِ وأصنع إفطاركِ لنتناوله سوياً وأقبل وجنتيك التفاحيّتين وأحملك فوق ظهري للسيارة، لكن.. لم تكن العاصفة من ضمن احتياطات خطتي.. فتأخرت الرحلة ساعتين إضافيتين.. آسفٌ أنني لم أبارك لكِ أول يوم دراسي..
يوم كان حفلك المسرحي، بعثت أمكِ بالنص إليّ.. قرأته بين غمرات الدموع، أتخيلكِ تشعين بين الممثلات، أتخيل الأضواء مصوَّبةً ناحيتك، يصرف الحضور كل انتباههم إليكِ، أي حظوة نالوها لتكوني بطلة هذا المحفل؟ طلبت من أمك أن تحضر بالنيابة عني وأن تسجل لي حفلكِ، استمعت للتسجيل سبع مرّات، وبعد السابعة لم أعد أحسب مرّات الإعادة ...
آسف لأنني لم أكن معكِ في أكثر أوقاتكِ أهميةً وتوتراً، آسفٌ لأن يدي لم تكن هناك لتمسكيها، ولم يكن صوتي يصل لمسمعكِ فأطمئنكِ بكلامي، آسفٌ لأنني دائمُ الانشغال عنك، وإن ذبلت زهرتكِ فالسقاء بيدي، وإن صرتي بستاناً من الورد فالسور أنا، وإن جاء يومٌ وغدوتِ شمساً فالسحاب أنا، في كل تحولاتك يا هاجر.. دعيني أحميكِ وأكون حولكِ، امنحيني المزيد من الفرص لأكون والدكِ، لا تمنعيني نعيم أن تكوني ابنتي..
أنا عائدٌ عمّا قريب.. ارعي قلب أمك وضحكة أختكِ، اتركهم تحت رعاية الفاطر ثم رعايتك..
أحبك يا حلوتي..
والدك"
ضممت ركبتاي إلى صدري وأخذت أفكر.. ماذا لو ساءت الأزمة لدى أبي؟ ماذا لو اقعدته عنّا طويل دهر؟ ماذا لو مات أحدنا بين ذلك؟ اه.. يا لرداءة السياق..
سمعت صوت خطىً قادمة نحوي فمسحت ما تراكم على المقل لتبادرني محرجة يدي البطيئة في مسح الدموع "أتبكين؟!".. إنها رشا.. هززت برأسي نفياً ووقفت على قدماي فبينما استوي واقفة إذا بها تضمني وتمسح على رأسي برفق كالأمهات "لا بأس إن كان قلبكِ يؤلمكِ.. ابكي يا هاجر.. سأغطيكِ عن كل العالم.. احشري نفسكِ فيّ"..
قالتها أو لم تقل.. لقد انهار السدّ ولا يقوى شيءٌ على منع كل تلك الأنهار ويحيل دونها ودون الدنيا.. "لا بأس عليكِ لا بأس.. كل شيء سيكون بخير" .. لأي مدى تحيط كلمتك (كل شيء)؟ أتحيط بأبي في تلك البلاد؟ أتصله؟ "أنوصلها له؟"..
أخشى يا رشا أن كل وسائل النقل والمواصلات لا توصل ما يختلج صدري، صدري يبدو كبركان.. وقد ثار.. وهذه الحمم حارّة حارقة، مهما صببت من الثلج والماء فلا شيء ليخمده، كرهت وجود البركان في أحشائي، يا رشا.. إنني رويداً رويداً أكره ضعفي وقلة حيلتي، مهما طالت يدي وتطاولت.. فهي لا تصله، أكره نفسي يا رشا، سعيتُ دائماً لأحصل على ما أريد، سعيتُ طوال هذه الحياة القصيرة لملء ذاك الفراغ في صدري، لكنه يا رشا يتوسع يتوسع، وها هو يبتلع بركاناً ليثور ويغلي في صدري ولا يعلم بضعف حالي سوى خالقي.. أكره كل شيء، أكره يدي القصيرة وقدمي البطيئة وعيناي محدودتا المدى، أكره كوني صغيرة جداً لدرجة أن يكون خياري الوحيد دائماً هو الانتظار..
أشعر بالضعف!
أخذتني رشا لمنزلها بعد أن هدأت وأجلستني على مقعد مكتبها "خذي" ومدت لي ورقةً وقلماً وفي زاوية المكتب ظرف رسائل أنيق بلونٍ أزرق..
أخبرتني أن أكتب شعوري لأبي، أن أخبره عنّا.. عن لميس وأمي، وعن كل الصبية في الحي، "وعني".. قالتها وضحكت "سأحضر مشروباً لكلتانا" وخَرجت..
"سعداً يا أبي وشوقاً للقاء يملأن قلبي ويكادان يفتكان بي.. يا ليتك تبدو لي كما تبدو بدور الشهر.. ولو مرةً في الشهر.. إنني بهذا أرضى..
كيف حالك يا حبيب فؤادي؟ أكل الأمور تجري بخير عندك؟
نحن بخيرٍ هنا، أمي لا زالت تصنع غداءً لذيذاً، ولميس لا زالت تدلل رنيم ولين، وأنا ما زلت أأخذُ دروس الطبخ وألعب مع الصبية في الملعب وأقرأ الكثير من الكتب.. في غيابك قرأت سبعة وأربعين كتاب متنوعي الحجم.. إنني أذكى بكثير وأكبر وعياً وإدراكاً منذ آخر مرة رأيتك..
كم أشتاق لك يا أبي.. ألا تمطرنا السماء فنهبط عليك.. ونلقاك.. فتروي الأمطار الأرض ويروي لقاؤك قلوبنا؟...
لا أعلم لأي مدى تكون الأوضاع سيئة لديك.. لكن.. ولو لخمس دقائق لنراك عبر الشبكة في اتصال مرئي يا أبي.. لم تعد الصور التي بين أيدينا تشبع أعيناً أرّقها الشوق وأسدلت الأحزان أستارها عليها دون الدنا والخلق..
اشرق علينا يا أبي ننذر العالم بفجرٍ بعد أن طال السمر ومات الزرع واشتاقت الدواب والأشجار للضوء.. اشرق علّنا ننفض عن قلوبنا وهناً ونصباً..
إني أحبك.. يا (والدي) ما امتدت بي الحياة..
خليفتك في ديار الأهل والأحباب هاجر"
غلَّفت لي رشا الرسالة وأخذتها لديها قائلة أنها ستجعل والدها يوصل الرسالة لمكتب البريد ويبعثها لوالدي..
قدمت لي رشا مع الشوكولا الساخنة قطعة حلوى وسألتني "أتذكرين يوم وجدتني نائمة عند الثلاجة؟"
هاجر: أجل أذكر..
رشا: استيقظت مبكراً يومها رغم أنني لم أنم إلا متأخراً.. أردت أن أصنع لكِ ولعائلتك إفطاراً، لكن بينما جلست أفكر وأنا أنظر للمكونات إذا بالنوم يغشاني
ضحكنا على بلاهة رشا وشكلها الفوضوي ذلك اليوم، إنها فتاة رقيقة صادقة، ورغم أن محاولتها في إظهار اهتمامها فشلت إلا أنها أخبرتني.. إنها صادقة، ربما لو كنت في موقفها لخالجني كبرياء منعني من إخبار أحد بحقيقة نيتي..
عدت للمنزل بعدها بروحٍ أخف، ورويداً رويداً يفتح الأمل شباكه في قلبي ويخمد ذلك البركان..
دخلت لغرفتي وألقيت بجسدي على سريري كما يُلقي الجندي بجسده بعد معركة ضروس..
دخلت لحظتها أمي فنهرتني على فوضى حجرتي فلبيت النداء "ابشري والله!"..
وبينما ارتب الأشياء إذا بصندوق رشا يبزغ بين الثياب.. أخذته واعتدلت جالسةً ففتحته..
كان يحتوي على سوار مصنوعٍ يدوياً من أحجارٍ قرمزية اللون بقلبٍ ذهبي يتوسط طابور الأحجار، وجدت تحته قصاصه كتبَت فيها "في كل المرات التي تقابلنا فيها قبل انتقالكِ لمنزلي كنت أحدث نفسي لو تمنحينني فرصة؟، رغم أنكِ كنت تتحاشينني بوضوح، لكنني أحببتكِ بوضوح، وها أنا أقود زمام المبادرة وأمنحك سواراً مماثلاً لما في معصمي لأسألكِ (أتكونين صديقة هذه الإنسانة المدعوة برشا؟)"
إنني أشعر بالخجل يغمرني، وعقلي مجمد، حتى أنه لا يمنحني اقتراحاً لأي رد فعل.. من الجيد أنني لم أفتحه أمامها..
لم أخرج من المنزل لأسبوع.. في اليوم الثامن طرقت رشا باب منزلنا عصراً لتخرج أمي وتجيبها كما أخبرتها تعليلاً لعدم خروجي كما اعتدت "لديها مشروع لتنجزه"، ألحت رشا على أمي لتستسلم الأخيرة وتركض الأولى لحجرتي بقيادة لميس، دخلت عليّ رشا بملامح النصر تعلو وجهها "أينكِ عنّا؟!"، حاولت تمرير سؤالها بقولي "مالذي جاء بكِ إلى هنا؟"
رشا: ما بكِ تخاطبينني بجفاء؟ سيؤلم هذا قلبي
واسقطت نفسهاً كالمغشي عليه وبدأت تتأوه واضعة يدها على قلبها ولميس تحاول انعاشها بضرب بطنها وتصرخُ لميس فيها "رشششاا لا تموتتي!!"
لا أعلم إن كن خططن لهذا أم لا.. لكنه مضحك لدرجة أن يفقد المرء رباطة جأشه وهيبته من الضحك، فور أن رأتني رشا وقد أطلقت حبيس صدري وحررتُ ضِيقه وضحكتُ، اعتدلت في جلستها وابتسمت "أنتِ بخيرٍ إذن"، جلست على مقعد مكتبي ووضعت كفي على وجهي "ومن قال أنني متوعكة"، لتتسع مقلتا رشا وتنفرج أساريرها وتقف على أقدامها مقتربةً مني قائلةً بكل تأثر "أنتِ ترتدينه؟!" لانتبه لمعصمي حاملاً ميثاق صداقتنا الأول، فتمسك معصمي بعينين لامعتين يملؤهما الامتنان "إذا أنتِ لا تكرهينني!"
هاجر: لا أكرهك
رشا: إذا أنتِ تودين أن تكوني صديقتي؟
هاجر: أجل
رشا: إذا أردتِ أن تصبحي صديقتي فهذا يعني أنكِ تحبينني؟!
هاجر: .. من المخجل قوله لكن.. أجل أحبك
أخذت رشا تقفز وتحضن لميس وتدور بها، إنها لطيفة..
لعبنا في غرفتي، وكتبنا عقود صداقتنا التي تتضمن شروطاً تبطل بعضها بعضاً، لكن كان من بين الشروط واحدٌ كتبنا فيه "ألا تمسك واحدة عن أخرى سوءاً أو خيراً مسَّها، كان السوء من الأخرى أو من غيرها"، عندها فكرت فيما إذا كنت في حياتي الممتدة لـ12 عاماً أخبر أحدهم بكل سوء أو خوفٍ يصيبني؟ .. في الحقيقة لم أفعل، لا أعلم إن كان الأمر عائداً لعدم شعوري بالراحة بإخبار أحد، أو أنه عائد لعدم وجودي للشخص المناسب؟ لا أعلم.. لكنني أمضيت كل تلك الأعوام أبتلع المآسي والأشجان، وكل ما اختلج هذا القلب الخائف الساعي حثيث السعي للأمان والطمأنينة.. لكن الأقدام تخذل أحياناً..
..
قبل أن تغادر رشا احتضنتني قائلة: "عندما غبتِ في اليومين الماضيين قلقت عليكِ لكنني خشيت أن آتيكِ فأثقل، حتى وجدت دافعاً للقدوم" ثم أطلقتني لتخرج ظرفاً من حقيبتها وتمدها لي بعينين تتفرسان القلق وتنهشانه من وجهي حين قلت "أجاء الرد؟" لتهز رأسها بالإيجاب "جاء يا هاجر"..
..
أخذت الرسالة وأخبرت أمي بأمر رسائلي لأبي، جلسنا بجوار بعضنا.. ركبتاي بركبتاها، فتحت الرسالة وعيناي ترتجفان أمانعهما الدمع فيمنعانني.. "سأبدأ القراءة" رفعت عيني لأمي لأرى عينياها ليست ببعيدة عن حالي لتجيبني "ابدئي"..
"مرحباً يا عائلتي الصغيرة..
مرحباً يا نوف، مرحباً يا هاجر، ومرحباً يا حلوتي لميس..
قرأت رسالتكِ يا هاجر، وسعيدٌ كاسمي أنكِ بعثتي لي بجواب، أحبكن جميعاً وأشتاق لكنّ ملء الأرض والسماء.. لكنها الظروف الصعبة..
وأنقل لكنّ البشرى في هذه الرسالة! أن ثلاثة أرباع الأزمة قد انحلّت ولله الحمد، فتحرَّوا قدومي عليكم، وأحسبكم تترقبونه كل يوم.. أعان الله قلبي وقلوبكن على هذه الأيام..
وإني يا هاجر أحببت اقتراحك بالاتصال المرئي عبر الشبكة، لكنني أخشى إن رأيت وجوهكن ألا أتمالك قلبي ونفسي فأمرض من تعاظم شوقي وولهي عليكن.. وهذه والله معضلة أخشى أن تطرحني فراشاً فتشتعل الأزمة وتكبر بدل أن أُخمدها..
والدكم الذي يحبكم
سعيد"
أرفق أبي مع رسالته صورة حديثةً له، رغم أننا نتأمل صوره يومياً، في شاشة هاتف أمي، وبين صفحات كتابي المفضل، إلا أننا حالما رأينا تلك الصورة أخذت أعيننا تتألق وتنازع الطمع لتحظي برؤية صافية لوجهه البشوش الصبوح الوضّاء، أخذت لميس الصورة وقبّلتها قائلة أنها هكذا أوصلت القبلة لوجنة أبي، ليتها هكذا يا لميس.. لكنّا لم نفتأ تقبيلاً واحتضاناً وروياً للأحاديث..
في اليوم التالي أخذتُ ورقة محاولةً كتابة جوابٍ لأبي:
"أهلاً وسهلاً ببطلي..
قرأت رسالتك مع أمي ولميس، سعدنا كثيراً بالبشرى التي زفيّتها لنا، اتصلت أمي بزوجة العم كريم لتخبرهم، واتصلت أنا بدوري على عمي لأنقل له الأخبار السعيدة، كان مساءً حلواً يوم أن كان اسمك يدور في الهواء..
لكن كيف حالك يا أبي؟ أتأكل جيداً؟ حذرتني من ألا أسهر.. فلا تسهر الليل وتتعب أحداقك يا أبي..
اليوم وقفت أفكر.. لماذا أسميتني هاجر؟ قالت لي أمي أن الاسم تبادر لذهنك عندما حملتني لأول مره، أكان هناك سبب للتسمية؟
أشتاق لك كثيراً يا أبي..
في الأيام الماضية مكثنا في بيت العم كريم لحاجة منزلنا للإصلاحات بعد حريق بسيط أصابه، لا تقلق لم يصبنا أذى، لكن.. تذكر ابنته رشا صحيح؟ في بادئ الأمر لم تعجبني لعدة أسباب، لكن الآن يا أبي انقشعت كل تلك السحب، لأرى رشا بقلبها النقي وضحكتها الرقيقة وحبها وقلقها الذين لم ألاحظهما لولا انتقالي لهنا، إنها فتاة ظريفة يا أبي! تعجبني! لكنني ما زلت لا أعرف عنها الكثير..
إنها التي اقترحت علي أن أكتب لك هذه الرسائل، وتكفل العم كريم بإيصالهن للمكتب، إنهم أشخاص جيدون يا أبي، لقد اخترت صديقك بعناية، ليتني أملك حذاقتك في انتقاء الأشخاص من حولي، فأنا شخص متردد خائف، أخشى أن أخرج من دائرة فلا أقوى على فتح عيناي، إنني أعرف بقلبي لكن عقلي لا يمنحني جوابهُ واليقين"
خرجت عصراً لأسلم الرسالة لرشا فتوصلها لوالدها فوالدي، صادفت رشا في طريقي لمنزلها فقالت ضاحكةً "كنت قادمةً لإخراجك من معتزلك"..
عندما دخلنا الساحة توقف عزام عن لَكْم حاتم وعبير توقفت عن دفن مهند، وعاصم توقف عن القراءة، توترت بعض الشيء.. مضت مدة.. رفعتُ يدي ملوّحة "مرحباً يا رفاق!"، ليركضوا ناحيتي صائحين "ههااججرر!! أين اختفيتِ!" تلقيت يومها الكثير من الأحضان والمشاعر الرقيقة، حتى أن ريف.. الفتاة الجميلة أمسكت بكلتا يدي وقالت "ظننتكِ متوعكة وكنّا نخطط لزيارة منزلك بالغد للاطمئنان عليكِ" فتلتفت للصبية سائلة "صح؟!" فيصيح العاقل والمجنون "صح!"..
بعد أن تفرق الجمع تلبيةً لنداءات مهند المدفون بالنجدة!
ليتقدم عاصم ناحيتي قائلاً "أنتِ هنا.." لتنسل رشا من بيننا لتحل عراك عبير وعزام لدفنها مهند.. يا ليتها دفنت عزام وكفَتنا..
عاصم: أكل شيء بخير؟
هاجر: أجل..
عاصم: إنهم مزعجون..
هاجر: أجل..
عاصم: أنذهب للبقالة؟ سأشتري لكِ شيئاً..
في طريقنا للبقالة سألني عاصم إن كنت قرأت كتاب سمّاه لي، فلم أكن قد قرأتُه فأجبته بلا، نظر لي بنظرة نصر وقال "سأعيركِ إياه، وعندما تنهينه تعالي لرؤيتي" فسألته "وماذا إن رأيتك قبل ذلك؟" فقال متصنعاً الضحك "لن تريني!" حاولت سؤاله عن عدم استطاعتي لرؤيته لكن هادي جاءهُ راكضاً قائلاً أن ريف قد وقعت من الأرجوحة.. أهي دمية إسفنجية؟ ما أسهل الثبات على الأرجوحة!
هرول لها بطلي عاصم ليساعدها، في تلك الأثناء جلست على المقعد بجوار سمر.. التي بادرتني قائلة "ألم تعلمي ماذا حدث في غيابك؟"
هاجر: ما الذي حدث؟
سمر: ألم يخبركِ عاصم؟ هه على الرغم من تسكعكما الكثير سوياً
هاجر: ما الأمر سمر لا تفزعينني؟!
سمر: عاصم.. سينتقل من هذا الحي
هاجر: أنتِ تمزحين صحيح؟! ليست دعابة جيدة يا سمر!
سمر: انظري إنه يمسح على رأس هادي ويساعد ريف، ويبتسم في وجه عزام، ويتدخل في فوصى يمكنه أن ينسلّ منها، لم يعتد على هذا صحيح؟ إنه يودعهم..
إن ما تقوله سمر صحيح لحد ما.. لكن.. لا زلت لا أستطيع التصديق!
أخذت رشا جانباً وسألتها منكرةً الأمر "عاصم لن ينتقل من هذا الحي صحيح؟" ليغيب نور وجهها وتحتضنني قائلةً "صحيح يا هاجر، صحيح"
عدت للمنزل فوراً مستسلمةً لدموعي لتستبيح مناطق وجهي كلها، فتتلقفني أمي بحضنها وتسألني سؤال الخائف "أحدث لكِ مكروه؟"..
نمت ذاك اليوم.. وعندما استيقظت صباحاً أخبرتني لميس أن عاصم قد مر علينا وسأل عني، إن كان لديه الوقت للتسكع فلم لم يخبرني بانتقاله؟ لمَ على أخبار الشخص الذي يهمني أن تصلني من غيره؟ ألم أكن أولى الناس بمعرفة هذه الأمور؟
عصراً.. مر عاصم مجدداً وأصر على أمي أن تستدعيني، رفضت..
غداً.. وبعد غد.. كل يوم يمر عاصم عصراً وتمر رشا عشاءً لترفه عني..
مجدداً هذا اليوم، عاصم واقفٌ على الباب.. لكن هذه المرة لم يطلبني.. أعطى أمي كتاباً وقال لها أن توصله لي.. ثم ودعهم ورحل..
أعطتني أمي الكتاب، ومسحت على ظهري قائلة "أعرف أنه صديقكِ منذ وقتٍ طويل، كان عليكِ أن تقابليه على الأقل مرة"
وضعت أمي الكتاب وخرجت، اقتربت من الكتاب، مسحت بيدي عليه "قد يكون آخر كتاب يبادلني إياه"، ولشوقي للحديث معه، وخجلي من تجاهله كل تلك الأيام؛ فتحت الكتاب وقرأته، كالعادة خطوط عاصم التي يضعها تحت الجمل التي تعجبه، تعليقاته القصيرة في أعالي الصفحات، ومن ثم تقييمه النهائي للكتاب في آخر الصفحة، لكن.. هذا الكتاب غريب.. كان عاصم يضع خطاً فقط على أربعة أحرف، عندما انهيت الكتاب.. الذي بالمناسبة نال إعجابي كثيراً كونه يتناول قصة فتىً مغامر يبحث عن كنز لأجداده متنقلاً في كل أصقاع الأرض، تشوقت لتقييم عاصم.. لكنه كتب في نهاية الكتاب "أرجو أنكِ لاحظتي أحرفي الأربعة، طوال قراءتي لهذه الرواية كنت أفكر فيكِ، بإلحاح وبجهد.. سعيتُ بحثاً عنكِ، حاولت لفت انتباهك مراتٍ عديدة.. لكنني لم أفلح، يوم أن سألتني ذاك المساء عمّا أقرأ.. لم أتمالك نفسي.. أخذت أتحدث كثيراً وبشكل عشوائي.. باءت كل خططي لحديثنا الأول بالفشل وضاعت مني كل الجمل الرنانة، قلقت عليكِ كثيراً عندما غبتِ عن الملعب، كنت أسأل رشا عنكِ فتخبرني أنها لا تعلم كحالي، حاولت أن أطرق باب منزلك لكن الخجل حرمني من أن أفعل..
يا هاجر.. ربما أنتِ مستاءة مني وتكرهينني الآن لأنني لم أخبركِ بأمر انتقالنا، لكنني من شدة يأسي وقلقي ألا نتحدث بعد انتقالي عن هذا الحي، خفت أن أخبركِ..
يا هاجر..
بملء هذا القلب الخائف أعدك أن آتي إليكِ عندما يحين الأوان.. سأخبركِ حينها بترتيب
الحروف الأربعة التي وضعت علاماتٍ عليها..
مع الود
عاصم"
أغلقت الكتاب وكانت الساعة السادسة صباحاً، ركضت إلى أمي أستأذنها بالخروج، فأذنت لي شرط أن أعود في نصف ساعة، يوم أن خرجت ركضت للملعب متوقعة ان تكون نقطة انطلاقي بحثاً عن عاصم، وجدت رشا عند الملعب جالسةً على الأرجوحة، فتوقفت أمامها أحاول أن ألتقط أنفاسي.. لتبترها قائلة "لقد رحل"، سقطت على الأرض.. ورفعت كفّاي وحدقت بهما "كلهم ينسلون من بين يدي يا رشا"، مسحت رشا على ظهري واحتضنتني قائلة "أخبرني أنه سيزورنا متى ما سنحت له الفرصة"..

مع الود
عاصم"
أغلقت الكتاب وكانت الساعة السادسة صباحاً، ركضت إلى أمي أستأذنها بالخروج، فأذنت لي شرط أن أعود في نصف ساعة، يوم أن خرجت ركضت للملعب متوقعة ان تكون نقطة انطلاقي بحثاً عن عاصم، وجدت رشا عند الملعب جالسةً على الأرجوحة، فتوقفت أمامها أحاول أن ألتقط أنفاسي.. لتبترها قائلة "لقد رحل"، سقطت على الأرض.. ورفعت كفّاي وحدقت بهما "كلهم ينسلون من بين يدي يا رشا"، مسحت رشا على ظهري واحتضنتني قائلة "أخبرني أنه سيزورنا متى ما سنحت له الفرصة"..

هاجر: لصنع الكعكة؟
رشا: بالطبع لأتذوق أشهى الكعكات في الدنيا.. لكن هناك سبب آخر..
هاجر: ما وراءك؟
أخرجت رشا ظرف رسالة "مفاجأة!"
التقطتها بسرعة من يدها لأتحقق من المُرسل.. إنه هو!، استأذنت منها راكضة للمنزل وقلبي يسابقني!
هذه رسائلك يا أبي.. ماذا إن جئت أنت؟
"حبًّا وسعداً يا هاجر، ويا حبيبتاي..
مرتاحٌ أنكم بخير هنا، يبعث لي عمك بمستجدات الأمر، أخبرني أنكِ أصبحتِ بارعة في خبز الكعك! أتساءل إن كنتِ ستفتحين مخبزاً في نهاية المطاف؟ متشوق لأن أعود إلى المنزل.. وأتناول طهو والدتك وخبزكِ ووجنتا لميس..
بذكر العودة! أنا قادمٍ بمشيئة الله في نهاية الشهر القادم، الأمور تتحسن هنا كثيراً، وقد استقرت ولله الحمد..
أما بالنسبة لسؤالك عن سبب تسميتي لك بهاجر، فهذا عائدٌ لكون ولادتك كانت في أول رحلة طويلة عن أمك، فعندما عدت ورأيتكِ وحملتكِ بين ذراعيّ.. وتاه قلبي بعد رؤية عيناكِ، وجهكِ وعيناك وثغرك الباسم يدفعان المرء ليهاجر طول الأرض والعرض لحاقاً بحسنها، تزامن هذا من عودتي من السفر.. فكنتِ كالهجرة الصغيرة التي يستريح فيها مهاجرو المدن المجاورة.. أنخت ناقتي لديكِ ولبيت نداء الراحة ووضعت رحالي عند بابك، فسقيتني حتى ارتويت، وملأتِ هذا القلب حبًّا وهذه العين رضا، رغم أن سبب تسميتي ليس له علاقة بمعنى اسمك الحقيقي، ولا بشخصية هاجر زوج إبراهيم عليه السلام، لكنني شعرت بالدفء حينما جال اسمكِ في خلدي حال حملي لكِ..
ربما يبدو تفسيراً أخرقاً مهما حاولت تجميله.. لكنني أحب كونكِ مقصد هجراتي مهما تشتت مقاصدي في هذه الأرض.. فإني أعود لكِ..
والدك السعيد سعيد"
كانت هذه أسعد بشرى وصلت لمنزلنا الصغير، اتصلت بعمي وأخبرته، ركضت للعم كريم ورشا وبشرّتهما، كانت كعكة رشا مفيدة في كل الأحوال، اجتمعنا في بيت العم كريم ووضعنا شموعاً واشعلناها ولا يكاد المرء فينا يقوى على رد أمارات السعد في وجهه، كانت ليلة سعيدة جداً..

رغم ترقبي الشديد لهذا اليوم إلا أنني نسيته! يالخراقتي!
أخرجت لميس من الغرفة لأبدل ثيابي، وبعجلٍ ارتديت الفستان الذي جهزته لهذه المناسبة.. فستانٌ أبيض بكسراتٍ في نهايته، مغلقة عند الرقبة، مع ذراع طويلة بأكتاف منفوشة، ارتديت سوار رشا وخاتمً اشتراه أبي في إحدى رحلاته..
عندما وصل أبي اتصل بنا عمي، مخبراً أنه سيقلُّه للمنزل بصحبة زوجته وأطفاله.. خرجت أنا ولميس لباب المنزل لنكون في استقباله، يوم تراءت سيارة عمي لنا بدأ وكأن الريح القادمة من ذلك الاتجاه أبرد وأنقى، وأشعة الشمس بدت أكثر رقة وأخف شعاعاً، من حيث يأتون.. تفتحت الأزهار، وسكت فراخ الحمام وتوقفت أسراب الطيور على الأشجار، عمّت السكينة والسلام هذا الحي "بعد أشهر عجاف".. وما بعد العجاف خيرٌ وكرم من ربنا..
بكينا ذلك الصباح كثيراً، لا أحد يمكنه تقدير كمّ الأشواق الذي اختلج صدورنا، وها هي المنى والأحلام تتحقق يا أبي، وها أنت تتراءى أمامي، أمسك يدك، أقبّل رأسك، أمد يدي فأحيطك حضناً "أنت هنا حقاً"..
في المساء زارنا العم كريم ورشا ووالدتها، تناولنا العشاء سوياً، أبي مع صديقه، وأنا مع صديقتي، إن الجو هنا مترعٌ بالسكر، حتى الهواء يبدو لذيذاً..
بعد ذهاب العم كريم وعائلته، اقترح أبي أن ننام سوياً "أربعتنا"، قضيننا تلك الليلة في الحديث وأخذ أبي يقص لنا ما الذي حدث له هناك، قطعت لميس حديثه وقالت ممسكةً بطرف كمه "أنت لن تتركنا مجدداً صحيح؟" ليحتضنها ويضعها في حجرِه قائلاً "لن أترككم"، لتستفسر أمي عن مقصده فيجيب "لقد وكلت أحدهم هناك، سيكون نائبي على ذلك المكتب، وسأتولى أنا إدارة المكتب الرئيسي هنا"..
ما أكبر كرم الله، يعيده لنا.. وللأبد! حمداً لله لا نحصي ثناءً عليه..
في مساء الغد فتح أبي الثلاجة فصاح بنا "أين نصيبي من الكعكة يا فتيات!"
فصحنا به أنا ولميس "أكلناه!"
هجم علينا وأخذ يصارعنا.. "لقد عاهدتماني أن تحفظا لي نصيبي! مخادعتان!"
وكأن كل الأيام الصعبة تبخرت.. وعودتك المحمودة كانت البارحة، قلّصت كل تلك الأيام الشداد، بل جمعتها بين كفيّك وهشّمتها..
كل صباح.. أستيقظ هلعةً لا يهدأ هذا الخوف حتى أراه.. فأعود أدراجي لحجرتي..
لذيذ هذا الأمان، وأنت تَخبُر كل ساكني قلبك، تحبهم، وتعلم بحبهم لك، كلانا يهتم بالآخر، كلانا يؤثر الآخر على نفسه، كلانا مستعد دائماً للتضحية للآخر، وإن شابت شائبة -لا قدّر الله- يبادر كلاهما للاستيضاح، على هذا فصاحبوا وأحبوا وتعاهدوا..
- مذكرات هاجر (الجزء الأول)
لبنى الثقيل
28 ذو القعدة 1440
31 يوليو 2019
لبنى الثقيل
28 ذو القعدة 1440
31 يوليو 2019
ياااااالله!
ردحذفواشتعلت مشاعري مع كلِ سطرٍ افرغُ منه! .. بكيتُ على احتراقِ المنزل وكأنني أرى ألسنة اللهب وهي تحرقُ أحلام الطفلة .. ثمَّ ضحكتُ على تصرفاتِ رشا ، وبراءة لميس وأكادُ أرى الأحزان تخجلُ من وجنتيها .. ، ثمَّ اغرورقت عيناي مرةً أُخرى على أحرفِ الوالدِ الحاني، وكم سعدتُ برسائله.. ثمَّ حزنتُ على رحيل الصديقُ الصغير (عاصم) ، وهاهي البشرررى عادَ الأب هو كلُّ الأحباب😭💘🎉🎊
يا الله لم استشعر وأعش نصاً كمل عشت هذهِ القصة! ، كأنما حروفها تدخلُ القلب دون طرقِ الأبواب! .. لذيذةٌ هيَ حروفك.
لا أعرف كم السطور اقتبستها لخزنة الأحرف الجميلة ، ولكن حسبتُ أني اقتبستها كلها فما أبقيتُ إلا أسماءهم الوهاجه🌟🌌.
سلم حرفك
ردحذف