فلن يدومَ على الإنسانِ إمكانُ التخطي إلى المحتوى الرئيسي

فلن يدومَ على الإنسانِ إمكانُ

 



منذ ما يزيد عن شهرين وأنا في محاولةٍ -يكسوها التردد والقلق- لكتابة رسالة لصديقة عزيزة، والرسالة مرفقةٌ مع هدية بمحتويات عديدة واستغرقت في جمعها وطلبها وقتاً.. وكنت في خضمّ هذا الجمع اعتذر لنفسي قائلة "ماله داعي نزاحم التفكير بالهدية بمحتوى الرسالة.. بس تجهز الهدية؛ بكتب الرسالة!"، اكتملت الهدية بكل محتواياتها، وهي بجوار مكتبي.. كلما استيقظت دخلت خرجت التفت .. أراها، "وتحسبوني اكتويت بنظرات الهدية العاتبة علي أن منعتها من أهلها وقمت كتبت رسالة؟" للأسف لا.. وها أنا أكتب هذه التدوينة والرسالة إلى الآن معلقة.

وساءني الأمر حقيقة.. أنني كنت مستعدة لكتابة أي شيء، ولفتح دواوين القصائد، وللتنقيب عن قصاصات الاقتباسات.. لكنني لم أكن مستعدةً لكتابة حتى اسمها على ورقة بيضاء استهلالاً لبدء الرسالة! كنتُ أؤجل الكتابة لأجلٍ غير مسمى وغير مؤرخ المهم ألا يكون الآن! أحزنني الأمر لمّا رأيت أن قلبي قصّر في الإلهام، وكنت قاب قوسين أو أدنى من إرسال الهدية بدون رسالة.. وأن أبعثها على البريد الإلكتروني مستغلةً أيام الشحن فرصةً للكتابة، لكنني تراجعت.

كنت في حال فوضوي .. حتى وردني سؤال على موقع كيريوس كات يقول فيه السائل: "لماذا نسهب في الكتابة لأشخاصٍ دون آخرين؟ بالرغم من أنهم في المنزلة ذاتها لدينا!"

فجاوبت ببسالة ثم قرأت جوابي للمراجعة قبل الارسال.. لم يكن مني إلّا أن ضحكت! كان لدي الجواب لفوضاي لكنني أمضيت جلَّ وقتي أغمس وجهي في سطلٍ من الإحباط!

قُلت:

لا أعرف ما نوع الكتابة الذي تقصدينه بالضبط لكنني سأجيب على أساس أنها كتابة رسائل ورقية أو بريدية أو في وسائل التواصل لكنها من النوع الطويل..


أعتقد أن غزارة الكلمات أمرٌ عائد لكمية الكلام الذي نريد إيصاله للشخص الآخر، ففي أحايين ما لا تعتمد غزارة الكلمات على حجم مشاعرنا فقط، الغزارة برأيي تنبع من أمرين إما -كما ذكر السائل- من مشاعرنا وإما من زخم الحديث الذي لم يحصل على فرصة للفظة وإطلاق سراحه من سجن فؤادك..

ذكرني ذلك بالرسائل التي بعثتها لأستاذاتي يوم تخرجي من الثانوية، وقعت على مسوداتها مؤخراً ووقفت أتساءل عن الاختلاف الملحوظ في عدد الأسطر! وبعد القراءة السريعة وجدت أن هناك أستاذةٌ لا أجرؤ على الحديث معها بدون الكلفة المبالغ بها.. كتبت لها قرابة الصفحة والنصف! بينما أستاذةٌ أعزّها لكن بيننا من التواصل والأحاديث الشخصية العابرة ما جعلني أشعر بأنها ليست الفرصة الأخيرة لإيصال مشاعري والأشياء التي أردت قولها دفعةً واحدة*، فكتبت لها ولم أتجاوز الصفحة، وكذلك كانت هناك أستاذة أحبها كثيراً -كانت معلمة كيمياء بالمناسبة- أجد طريقي للتواصل معها إن بحثت لكنني لم أتمكن من حبس كل ذاك الكلام، لأنني كنت على يقين بأنه لن تكون هناك فرصة أكبر من هذه الفرصة للحديث، لم تكن من اللاتي يضعن الحواجز جانباً.. رأيتها مرةً تبنيها، انتهى بي الأمر بكتابة ثلاث صفحات أو أربعة لست متأكدة. لذا فمقدار الحب والمشاعر المكنونة ليس السبب الوحيد للغزارة.

وبالمناسبة.. كمية الكلام الكبيرة قد تكون عائق عن الكتابة وترغمك لأن تؤجل الموضوع وتؤجل لأن "من أين أبدأ؟" وتخطر لك أفكار من قبيل "انتظري أحصي وأجمع أكبر قدر ممكن من المواضيع واللفتات اللي أبغى أكتبها لذاك الشخص، ثم أبدأ أكتب!" وهذه حيل النفس المترددة الخائفة الساعية للمثالية والصورة الكاملة التي لن تحصل عليها ما حيت، وهذا شيء وقعت فيه بنفسي، ولا زلت واقعة دعواتكم أطلع لأنها هدية تخرج وأخاف تتوظف وأنا للحين ما حفّلتها..

وبالنظر لموقفي.. ستكون هذه أول رسالة ورقية أدفعُها لها، لذا أحاول أن أمنع نفسي وأراوغها ألا تثني نفسها في الظرف عوضاً عن الرسالة.. صنعت كل الجو المناسب لكتابة الرسالة، حتى أنني اشتريت شمع رسائل جديد! وأظرفاً جديدةً شفّافة! ربما رغبتي بإبهارها هي ما يؤخرني في النهاية.

- شكراً لسؤالكِ، أتمنى أنه كان جواباً مرضياً.


_________________

(*): وهذا مبدأٌ حياتيٌّ خاطئ، توقفت عن ممارسته لأنه في النهاية لا يعلم أحدنا يقيناً ما هي آخر فرصة للحديث والتعبير.


الشطر في العنوان من بيت لأبو الفتح البستي:

"أحسِن إذا كان إمكانٌ ومقدرةٌ

فلن يدومَ على الإنسانِ إمكانُ"


- لبنى الثقيل

تعليقات

إرسال تعليق