ميمونة أختي الصغيرة، لطالما كانت مختلفة، قلقة ومرتبكة، بل يأكلها القلق وجبةً دسمة، تنظر لكل الزاويا في كل الحوادث قلقةً من أن يفوتها تفصيلٌ صغير مهما قلَّت أهميته، كانت تسعى بمثابرة شديدة لئلا يفوتها شيء، تغضب إن فاتها اجتماع العائلة يوم الجمعة، ويتكدر صفو خاطرها إن فاتها المطر. تقرأ لافتات المتاجر بينما تستقل المواصلات.. وربما غضبت لتفويتها الاسم الأخير للمتجر، فتضطر لفتح خرائط قوقل لتهتدي أخيراً لاسمه الكامل، كانت تركض للمقدمة دوماً، تصرُّ على مشاهدة المكان من أقرب نقطة، حتى في حفلاتها المسرحية التي تنضم فيها للطاقم، يوم الأداء تقترب من الستار -والحضور لهم ضجيج- فتفتحه ليسع عينيها فتقلبهما يميناً ويساراً؛ تخشى أن يفوتها مشهد الجمهور محتشداً عندما يأتي دورها لتعلتي الخشبة، كانت بهذا القلق والحرص تقابل عالماً غير مبالٍ وغير آبهٍ بمعضلات الإنسان.
لا يعرف أحدٌ منا أنها مصابة بالقلق وهوس التفاصيل، كنَّا نعتقد أنه مجرد حرص واهتمام بالكمال، حتى قالت لي ذات يوم "قد تظنين أنني جَلدة ومجرد حريصة، لكنني غارقة في التفاصيل والتدقيق والقلق غير المجدي"
وبين هذا وذاك، توفيت "غيم" أعز صديقاتها، حين استقبلت ميمونة الخبر جلست في مكانها لساعتين بلا حراك، لكن كل شيء فيها يتحرك، عيناها العسليتان لا تكفّ عن الدوران، وعقلُها يعج بالفوضى، وقلبها.. ليرحم الله قلبها..
قد تكون ميمونة في حالةٍ نفسية صعبة إذ أنها فقدت أعز صديقاتها، وأحب زوايا الحياة لها، لكن الذي التهمها قطعةً قطعة هو أنها أرادت أن تقوم بالكثير معها، أماكن كثيرة أرادت ميمونة أن تزورها بصحبة صديقتها، أعيادٌ عديدة تبارك لها حلولها، هدايا لم تقدمها لها بعد، مواضيع وقصص واعترافات كانت ترجأ لأجلٍ قريب، لكن الموت كان أقرب.
أصيبت ميمونة بحمى شديدة، وأدخلت المستشفى على إثرها، وكهلوسات كل المصابين بالحمى.. رأت ميمونة صديقتها تدخل لجناحها، حاولت ميمونة أن تجلس لتحدثها لكن المرض أقوى من ذلك "غيم.. لا تروحين"
اقتربت غيم من ميمونة وجلست بقربها، أمسكت يدها "لا بد أن أذهب، لكنني هنا لأخبركِ شيئاً..
ميمونة.. لا بأس أن تفوتكِ الأشياء، لا بأس أن تفلت من يدكِ الأمور، ما أحلاكِ.. خفيفةً راضية، ضاحكةً تغلقين عينيك بسكينة، وترحمينها من الجفاف بإطالتكِ النظر..
سيفوتكِ في نهاية المطاف الكثير، ستفوتك نفسك، ستفوتك الأحداث الحلوة السريعة بينما تدققين في الحوادث الصغيرة التافهة، وكلُ ما لم تدركيه لم يكن لكِ مكانٌ فيه، وقتكِ لن يتسع لتدارك كل حوادث الدنيا!
فاعتبري بما مضى لما هو قادم، واسعدي.. فالسعدُ اختيار، والبؤسُ قرار..
ميمونة لا بد لي أن أذهب.. فكلُ شيءٍ مصيره الذهاب..
أحبكِ أبداً ما شاء الله للأبد أن يحيط"
واختفت غيم.. كغيمة أظلَّت ثم تلاشت كما جاءت..
وبقلبٍ مثقل نامت ميمونة تلك الليلة، يبلل دمعها وسادتها.
في اليوم التالي استيقظت فزعة من نومها، والتقطت هاتفها واتصلت بكل أهلها "أنتم بخير؟! أكل شيءٍ على ما يرام؟ سعود الصغير بخير؟ كيف ضغط جدتي؟! هل تناول جدي دواءه؟"
كأنما عجنت طينة ميمونة بالقلق، وصعبٌ يا غيم.. صعبٌ انتزاعه.
بعد أشهر خفّت حدة قلقها، لكنها في بعض الأيام تستيقظ ليلاً تتفحصنا واحداً واحداً، تضع اصبعها عند أنوفنا، أو على رقابنا تجس نبضنا. تقف لتبكي بحرقة عندما ترى شيئاً لغيم بين أشيائها، ثم تخرج مالاً من محفظتها وتضعه في حافظة نقود أخرى، أسمتها بهدايا الغيم، فكلما اشتاقت لها سلكت طريق الصدقة إليها، لتجدد الملائكة في قبرها ذكرها.
ربما أكل القلق جزءاً كبيراً من أختي، وأهدر من دمعها وعقلها الكثير، لكنها رويداً رويداً تستعيد أراضيها.
_________________________________
طمئن فؤادك فالأقدارُ حانيَةٌ
وفي الحياةِ سرورٌ يعقُبُ الألَما
القصة مستلهمة من خيال صديقتي ميمونة بنت خالد، أهديها هذه القصة القصيرة آملةً أن تطمئنها وتبهج خاطرها ولو لبعض الوقت..
تعليقات
إرسال تعليق