جابر التخطي إلى المحتوى الرئيسي

جابر




تنويه: هذه القصة مبنية على أحداث حقيقية.

في إحدى المدن الرئيسية المزدحمة بالبشر، المزدحمة بالأحلام والأمنيات، بالجوع والفقر والتخمة والثراء الفاحش، بهذا تكونت المدن، بكل المتضادات التي تعرف.

في إحدى أحياء المدينة كانت تقطن عائلتي لثلاثة أجيال، كنا عوائل متفرعةً صغيرة، نقتسم بنايتين بستة طوابق، كان جدي ثرياً ومعمارياً وفيضاً من الحنان قبل كل ذلك، فكانت وصيته ألا نفترق، ألا يشق أحدهم صفنا، سواءً من الداخل أو الخارج. وعلى هذا كبرنا، يمرح الصبية مع أبناء خالهم وعمهم كما لو كانوا أشقاء. وأعمامي كأبي إن غاب أو حضر، كلنا على قلبٍ واحد.

عمي الأكبر جابر، كان أكثر أعمامي شبهاً بجدي، توزعت صفاته في كل أبنائه وبناته ثم عادت واجتمعت في عمي جابر، كان له ذاك الحضور الجذاب، رغم كونه كبير العائلة إلا أنه لم يخلق ذاك الحاجز والمسافة مع صغار العائلة التي تجعلك تجفل منه، فكان يمازحنا ويلاعبنا وينادينا بكنىً مضحكةٍ كل حين.

لدى عمي جابر ابنةٌ في مثل عمري، وبحكم تفرغ عمي في الفترة الصباحية فقد حمل عن والدي مهمة توصيلي يومياً للمدرسة، فصار المشوار اليومي الخانق أمتع المشاوير في العالم! فعمي كان يقدم السعادة والراحة النفسية على كل شيء، وبحسب ما يقول "وش الفايدة تدرسين وخاطرك معكّر؟ ما تستفيدين!" لذا نتوقف في أغلب الأحيان لنبتاع بعض المثلجات قبل التوجه للمدرسة.

كان عمي جابر محبوباً من قِبل كل أفراد العائلة كبيرهم وصغيرهم، لكن كان بيننا علاقة مميزة بخلاف البقية، فكان كلما أقبلت على مجلسٍ هو فيه قطع حديثه مع الكبار ورحب بي "هلا بالأميرة الصغيرة هلا والله هلا"، يفرح إن سمع نكتة جديدة فإذا لقيني أخبرني بها مترقباً ضحكي، رغم أنه لا يسمع نكت جديدة كثيراً ويكرر نكته القديمة إلا أنني في كل مرةٍ أضحك كأنني أسمعها للمرة الأولى، يعرف أيضاً حبي للخوخ فكلما زارنا أحضر علبة خوخ وقال مؤكداً "هذا لحنين! ما يأكله غيرها!".

كان عمي جابر يسير بين الناس وبيننا خاصة جابراً للخواطر، منصتاً للأحاديث من مهمها لاتفهها، واقفاً بانتظار المتأخر، ضاحكاً لكل الدعابات والنكت، مجيباً على كل الأسئلة، لاعباً أساسياً في لعبة الكيرم والأونو أو في دوري العائلة، نتركه يتولى الحراسة لأنه يفضل أن يكون خلفنا ليشجعنا، حتى أنه مرةً نسي أن سعد في الفريق الخصم فارشده لثغرةٍ ليسدد من خلالها على فريقه.. الذي هو فريق عمي جابر. اضطر فريق عمي جابر أن يلزموه بأن يحلف يميناً بأن يكون موالياً لفريقه حتى تنتهي المباراة. كان هكذا ذو حضورٍ حيوي سعيد.

وفي ليلة لم نتوقع قدومها.. أصيب عمي في حادث، فقد تعثر وسقط على الأرض كاسراً كتفه، لم تكن كتفه الخسارة الوحيدة في هذه الحادثة، فعمي فقد جزءاً كبيراً من ذكرياته، تسربت العشرين سنة الماضية من العظم المكسور، العشرين سنة الزاخرة بالمواقف واللحظات والأيام الحلوة.

وقع الخبر علينا كان أشبه بالصاعقة!

"فقدها للأبد؟! بترجع إذا عالج صح؟" بهذا السؤال المرتجف استقبلناه..



لم يكن أحدنا يقوى على لقاءه، عدا أبي وبعض أعمامي وعمتي الكبيرة حملوا قلوبهم بين أيديهم وزاروه في المستشفى. كنا جميعاً بلا استثناء بحاجة لبعض الوقت لتقبل هذه الحقيقة، حقيقة أن الذكرى الأخيرة لعمي جابر قبل عقدين من الزمن.

لكن الأمر الجارح أكثر أن فقدان عشرين سنة من ذاكرة عمي يعني فقداني بالكامل، أنا حنين أميرته وابنة أخيه المحبوبة، يعني أنني لا شيء الآن في عقله، لا شيء في قلبه، لا شيء في حياته، لن يرحب بي إذا دخلت المجلس، لن يتذكر كُناه الذي يناديني بها، ولن يلفت انتباهه الخوخ في المتاجر، عمي جابر الذي عشت معه وأحببته لم يعد له وجود.



بعد خروجه من المستشفى زرناه جميعاً، تدربت على هذا اللقاء لليال، فيجب عليَّ أن ابتسم ابتسامةً سعيدة وأضحك وألا أذرف دمعة أمامه، حتى لا أشعره بعدم الراحة.

وقفت ابنته الكبرى بجواره معرّفةً بكل داخل بينما يعارك عمي عقله ليتذكرنا: "هذا عمي حسن، أبو جود"

صافحه وقبَّل رأسه: "آخر الشر يا أبو فهد"

ابتسم له: "اللهم آمين جزاك الله خير يا حسن"

"هذه بنته جود" قبّلت جود رأسه: "تقوم بالسلامة يا عمي"

يجيبها: "يا بعد روح عمو"

"هذه عمتي زينب، أم صالح" تذرف العمة زينب الدموع: "ما تشوف شر يا قلب أختك"

يمسك يدها ويربت عليها "الشر ما يجيك يا أم صالح"

"هذه حنين بنت عمي عبد الله" أتقدم بقلق، يرفع عينه لعيني، لا يعرفني، أنا وجهٌ جديدٌ على عقله، بينما تاهت عيناه في الفراغ بحثاً عن صورةٍ لي، بادرته: "خطاك السوء يا عمي"

يبتسم لي مجاملة: "اللهم آمين"

مواجهته كانت أصعب من تخيلي ذلك، وأصعب من لحظة تلقي الخبر. ركضت لمكانٍ خال وبكيت، لا نعلم ولا حتى الطبيب إن كان عمي القديم سيعود، لا نعلم عن سبب فقدانه للذاكرة ولا عن مدى إمكانية العلاج، لا نعرف شيئاً، كنا نقف بضعفٍ نرى المجهول يخطف عمي من بين أيدينا.

مساءً جلسنا جميعاً يتوسطنا عمي على فراشٍ أبيض، يجلس بقلق تتذبذب مقلتاه بين وجوهنا، هؤلاء الأشخاص، أهله وأحب الناس لقلبه الذي اعتاد ممازحتهم وملاطفتهم، لا يعرفهم، كان يشعر بزوبعةٍ من الغربة تعصف في صدره، رغم أنه لا يتذكر شيئاً إلا أنه يشعر بحسرة الفقد، يشعر بأنه نسي أشياء عزيزة وغالية، كانت نظرته حزينة وخائفة، ربما خطر في باله أن ذكرياته ستتسرب من عقله مجدداً، ففتح عينيه بوسعهما محاولاً جمع أي ذكرى.. لعله يعوض شيئاً من المفقود.

كان مساءً صعباً، وفي الغد جلست لوحدي في حجرتي أفكر، لا بأس عندي إن لم تعد ذاكرته، سأبدأ من جديد بالتعرف عليه، وسأخبره عني، وعن طفولتي وعن المواقف بيننا، وسأصنع مواقف أكثر، فأنا لست أحبه لحبه لي، أحبه لأنه هو، لأنه عمي جابر فقط، أحب روحه، وصوت ضحكته، وشخصيته، وسأظل أحبه بصحته بسقمه، بصخبه بصمته، سأحبه بأي شكلٍ يأتي به.



كانت أياماً صعبة على عمي جابر وعائلته، فلم يتعرف عمي على أبناءه، ظل يتعرق بينما يفشل في تخمين أسمائهم، نسى عمي أشياء كثيرة حتى خارج العشرين عام الماضية، قال الطبيب ربما لأنه يضغط بشدة على عقله محاولاً التذكر فتشوشت حتى ذكرياته القديمة.

أحاول تخيل شعور عمي حينها، عاش قرابة الخمسين عقد، مترعة بالعاطفة والمواقف الثمينة والذكريات المميزة، ثم فجأة فقد ثلث كنزه! ربما وقع عمي في دوامة من الحسرة وإنكار الذات، وظهر ذلك عليه.. ففقد كثيراً من وزنه وخفت بريق عينيه، وصار منطوياً على نفسه، لا يحب أن يجتمع معنا ويفضل الجلوس لوحده، كان يخاف أن يكتشف فقدانه لشيءٍ مهم لا يجدر به أن يفقده، كان مليئاً بالخوف والقلق.



مرَّت الأيام بحلوها ومرَّها وبلغ الأقارب والأصحاب خبر عمي فاقترح أحدهم علينا أن نأتي براقي يرقي عمي، ثقةً وإيماناً بأن القرآن شفاء العليل. قبل أن يغادر الراقي أخذ والدي بيده وقال: "لعل ما فيه من أثر عينٍ حاسدة، حاولوا أخذ أثر ممن تظنون فيهم، والله يكتب له الشفاء". انطلقنا باحثين عن صاحب العين الحاسدة، جمعنا بعض الآثار لكن لم يتأثر عمي بأيٍّ منها.. لا زال يسأل ابنه عامر "ما اسمك؟"، ويخطِئ سيارته عند العودة إليها، ويقف طويلاً حتى يتصل به أحد أهله يسأل عن سبب تأخره "ضيعت سيارتي"، يأتي عمي حسن ويرشده لسيارته، صار الأمر يؤثر على ذاكرته قريبة المدى أيضاً، كانت حالة عمي تسوء أكثر بسبب تأثير العامل النفسي، وكنا نقف لا نلمك شيئاً سوى الدعاء والبكاء بحرقة طالبين من الله العون.



بعد أسابيع زار عمي صديقه وحضر والدي وعمي حسن لاستقباله، تحدث صديق عمي عن ليلة كسر كتفه متعجباً وحامداً الله أن الأمر اقتصر على كسر في الكتف، قاطعه والدي "ليتها كتفه بس"، استفهم صديق عمي "وش صابه بعد؟!"

- ما وصلك خبر؟

- لا، وش يا أبو عبدالله؟

- جابر فقد ذاكرته.. حول عشرين سنة تزيد ما تنقص

- بالله عليك!!

صعق صديق عمي بالخبر وبدأ يتحدث عن الليلة ذاتها لكن من زاوية أخرى، وأخبر والدي عن كيف تميز عمي جابر تلك الليلة براوية قصة بتفاصيل دقيقة، فعلَّق أحد الحضور على دقة ذكرياته بانبهار. ولعله نسي أن يذكر الله، فأصاب قوله عمي في مقتل.

أوصلنا صديق عمي للرجل وأخذنا من أثره وبدأت حالة عمي تتحسن بفضل الله، بدأ بتذكر أسماء أطفاله، تذكر مراحلهم الدراسية بعدها بأيام، صار يجيب على اتصالات هاتفه بدون أن يتردد لدقائق محاولاً تذكر علاقته بالمتصل، بعدها بأسبوعين جاء ليجلس معنا كما اعتاد قبل مرضه، يضحك فجأةً في منتصف المجلس فنسأله عن السبب ليجيبنا: "تذكرت نكتة مضحكة!" ابتسم له "قلها لنا عمي!"، يخرج للمشي خارجاً بعد انقطاع.. فلم يعد متوتراً أو مرتبكاً من أسئلة الجيران فقد بات يعرف الإجابات كلها، وهكذا رويداً رويداً تعود ذكرياته الهاربة إلى عقله حتى اكتملت، ثم انقشع الضباب عن عقله، وعاد، عاد عمي جابر بكل نكاته المكررة وصناديق الخوخ الطازجة.

والآن أدخل لمجلس العائلة رافعةً رأسي بزهو أنتظر أن يناديني "أميرتي".


_______________________________
* القصة مستلهمة من الصديقة يُمن

تعليقات

  1. تحضيراتك مُشهيّة يا لُُبنى العذبة ؛ استقبلتها كوجبات لذيذة مُساند لي في أكثر أوقاتي ضياع .
    بالمناسبة لا أذكر متى آخر مره قرأت شيء مُبهج في نهايته كجابر و عودة ال٢٠ و يزيد لعقله و جسده ، جبر الله خاطرك و خواطرنا ...

    ردحذف
  2. رائعة
    شدني أسلوبك من البداية حتى النهاية .
    و سعيدة أن القصة انتهت نهاية سعيدة ، و إلا لحملت عبء التفكير بحالة جابر لبقية اليوم .
    استمري

    ردحذف
  3. كالعادة تتجمع دموعي دائمًا أثناء قراءتي لقصصك، في البداية وفي المنتصف وحتى في النهاية، تملكين أسلوبًا رائعًا في جذب القارئ أو ربما جذبي 😂 تبارك الرحمن
    الله ينفع فيك
    ننتظر المزيد من الوجبات اللذيذة 😋♥️

    ردحذف
  4. أقصوصة جميلة لطيفة، ونهايتها تجبر الخاطر كاسم العم جابر..
    استمتعت جدًا بقراءتها، وحزنت كثيرًا على حال العم جابر؛ فكيف كان شعوره وقد خسر كل الإضافات اللطيفة لحياته خلال هذه العشرين سنة! وكيف كان شعوره وهو يرى أناسًا يحبونه ويعرفونه وهو لا يعرف عنهم أي أمر!
    وحنين "أميرة عمها" كيف استطاعت التأقلم، فالشخص الذي تحبه كثيرًا لا يعرف حتى اسمها.
    فكرت أيضًا، لو لم تعد ذكريات العم جابر، هل كان سيشكل علاقات جديدة مع الأشخاص من حوله؟ أم أن قلبه سيدله على شعوره تجاه هؤلاء الأشخاص المخزن في مكانٍ بعيد في ذاكرته، مجرد شعور "هذا الشخص مريح، أنا أحبه"؟
    أقصوصة لطيفة، سأعاود قراءتها، أحببت كثيرًا شخصية العم جابر، جبر الله قلوبنا جميعًا..
    شكرًا لك ..

    ردحذف

إرسال تعليق