كتف التخطي إلى المحتوى الرئيسي

كتف



اليوم يصعب على صدره أن يسع الهواء، يفتح فمه بوسعه مستجدياً نسمة هواء توَّسع رئته، يغلق فمه خائباً بأنصاف نسمات، يقف مستعيناً بالمعين ويجرّ قدميه بثقل نحو سريره، يجلس، ويتمدد على ظهره مريحاً إياه، لكن لا يرتاح ظهره، ولا يقع من على كتفيه شيء، إذ ليس للجاذبية سلطة على الهموم، فتثبت على كتفيه كأنما تعض الأثقال بنواجذها عليهما، تذكّره باستحالة الراحة ثانية بعد ثانية، لا هدوء، ولا نوم هانئ. يغمض عينيه وترتجف جفونه؛ رافضةً الإطباق، ينام لكن لا ينام. يستيقظ في الغد متنهداً، هو الوحيد الذي يتنهد فور استيقاظه، بينما يتثاءب كل البشر.

يخرج لعمله، ويلقي بجسده على كرسيه كرئيس، هو الذي لا يعرف للتباهي ولا للغرور طريقاً ولا يمشي بين الناس فرحاً رافعاً أنفه مغروراً بمنصبه، حتى إذا سأله أحدٌ خارج عمله عن وظيفته، يقول: مدرس، يعلل ذلك لي بقوله: أنا أدرس الموظفين وأعلمهم شغلهم.

يتوافد عليه في عمله الجديد عشرات المراجعين يومياً، كلُّهم تملأ أفواههم الكلمات، تفور دماؤهم، يسمع لكل هؤلاء ويسعى في كل حلٍ يراه وجيهاً لمشكلاتهم، حتى أنه ينسى أن يتناول قهوته الصباحية، إذ لم يكن يهتم كثيراً بأمر الإفطار، وكل متعته اليومية تتلخص في أن يشرب قهوته على معدةٍ خاوية، يتلذذ بكونها تغشى كل جوفه وتمشي بزهو وحرية وسيادة لا ينازعها ولا يناكفها شيء. يقول لي متضايقاً ذات مساء "خذتني الأشغال ما تذكرت القهوة إلا الظهر!".

يمتلئ رأسه بالكلمات التي ألقوها عليه، يكاد ينفجر لولا لطف الله بنا إذ وهبنا جماجم قوية وسميكة.

في أول أيام عمله في ذاك المنصب كان يعود ويمضي بقية يومه صامتاً إلا إن احتاج أن يتكلم احتياجاً شديداً، قال لي لاحقاً: "لو أقدر أسكّت كل أحد سويت، سمعت كثير في العمل لين أوجعني رأسي"، كان يستهلك كل قدرته السماعية في عمله، وربما يسمع أكثر من قدرته بكثير، فيجيء للبيت منهكاً، خائر القوى.

يعود من عمله، يستلقي على سريره، راجياً ساعتين من النوم الهادئ، ظاناً أنه إن أنهك جسده وعقله سيستسلم وينام بعمق كما يتمنى! فآتيه، أوقظه لصلاة العصر، لم يكن صعب الإيقاظ أبداً، أناديه بهدوء شديد، بينما أمد يدي لذراعه ألمسه بخفة، فينتفض كل جسده هلِعاً مرعوباً! كان هكذا مذ عرفته، ولا زلت أتساءل -حتى اللحظة- لماذا يهلع لهذه الدرجة؟ ما الذي رآه أثناء نومه؟

لا يفضل أن يستمع لوقت طويل، إذ ليس مستمعاً. ولا يحب أن يتكلم كثيراً، إذ يحب أن يكون رجلاً توزن كلماته وتثقل، ولأن الكلام الكثير ينهكه، فقد سمعته مرة يغلق الهاتف بعد مكالمة استمرت ٢٠ دقيقة فيقول "تعبت من الحكي". ولا يحب القيادة، يذهب لعمله فجراً ويعود ظهراً، لا جولات ولا مشاوير حتى اليوم التالي، إلا ما ندر، مرةً أخذني لمشوار بعد صلاة العشاء فقال: "تصدقين؟ استنكرت الشارع في الليل!" مع أنه حيُّنا فلم نكن ابتعدنا عن منزلنا سوى أربع دقائق!

أمضى حياته كافاً نفسه عن غيره، حاملاً ثقل همومه لوحده، حتى ظن الناس أنه خفيف فأثقلوه بهمومهم، يرفضها؟ بل أخذها بيمناه مبشراً الآخر بالمساعدة. كان وما زال دائماً دائراً حول نفسه حاملاً إياها عن أن يبصر أحدٌ خفاياها.

يحفُّ كل من حوله بعنايته وعونه، إذ عُجن طينه بالشهامة والكرم والرجولة، بينما تجري في عروقه دماء البدوي الأول، وتلقى منذ صغره سلُومَ العَرب وتعلَّمها من مجالس الرجال ومن جلسات والده التعليمية، فكان أنبل وأشجع وأثبت رجلٍ عرفته في المعارك، يتساقط ويهرب من حوله ومن فوقه ومن تحته، بينما يقف بصلابةٍ وبحجةٍ بيّنةٍ ولا يعود حتى يسترد حقّه، أو حقّ الذي طلبه ذاك المعروف. يبذل للناس مثل الذي يبذله لنفسه.. بل أكثر، يمد يديه ما طالت أن تمتد، ولم أرَ يداً امتدت أطول من يديه في حياتي، في زمنٍ قصرت الأيادي عن الغصن الواحد.

بعد كل هذا الجهاد الطويل، وبعد أن قضى عمراً طويلاً يسعى في عدة اتجاهات، غير محددٍ لوجهةِ فتحٍ واحدة، يجثو على ركبتيه يحصي كم فاته جراء الشتات، يتلو علي بيتاً عزيزاً من الشعر "ومشتت العزمات ينفق عمره .. حيران! لا ظفرٌ ولا إخفاقُ!" ويتسرب من عينيه ندمٌ من الصعب معالجته. كان متورطاً بالفعل بنتائج شتاته، لم يكن يمتلك رفاهية الاستسلام عن كل ذلك، إذ اعتادت بعض الجباهِ وجوده، ويعزُّ على روح العربي والبدوي مثله أن يخلف عهوده، حتى وإن كانت معركةً معلَّقةً منذ سنين! يقف مواسياً، متفهماً، مستمعاً للشكوى.

اليوم إحدى الجباه التي عاهد على الوقوف عليها، عاهد عليها من قبلِ أن يولد حتى، وبعد طول انتظار، يفجعون فيها بغارةٍ غير متوقعة، يتلاعب صاحب الجبهة غير مفصحٍ عن تحركاته، بينما يتورط الرجل العربي فيه أن يعاتبه ويؤنبه على أخطائه، يحترق هاتفه من الاتصالات، يغلق واحداً ليتصل بآخر، راجياً منهم أن يسدوا إليه معروفاً ينقذ صاحب الجبهة، وهو الذي لا يطلب المعروف لنفسه ترفعاً وتكرماً عن إراقة وجهه للناس، يجلسني ذات يوم لنتدارس حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تَزالُ المسأَلةُ بأحدِكُم حتَّى يَلقى اللَّهَ وليسَت في وجهِهِ مُزعةُ لَحمٍ" متأثراً من شرح الحديث.

يتصل بأشجع الفرسان الذين يعرفهم، طالباً إياه أن يساعده في إطلاق سراح أسرى الغارة، يرفع الفارس حاجباه آسفاً "اعذرني".

بعد أن أمضى ساعات في ذلك، يحمل نفسه بثِقَلٍ لحجرته، الليلة يشابهه قول الشاعر:

"‏كتفٌ من الحِمل الثقيل تشبَّعت
حتى يكادُ يهدُّها التربيتُ"

يا معين.

تعليقات

  1. استمتعت جدًا بالقصة، رائعة بمعنى الكلمة.
    تمنيت لو ركزتي أكثر على كيف خُذل البطل في النهاية، أعتقد أن الاستعارات: جبهة، غارة،.. جعلت الحدث غامضًا فخففت من وقعه، يعني من بالضبط احتاج مساعدة البطل لدرجة تجبره على التحول من معين إلى شخص آخر يطلب المساعدة من الناس ولا يتلقاها؟ وبعده مباشرة جاءت النهاية سريعة فلم تترك أثر قوي يجعلنا نتعاطف بقوة مع البطل أو نشعر بخذلانه.

    ردحذف
    الردود
    1. شكراً لكِ منيرة..
      بالنسبة لسؤالك عمن طلب مساعدة البطل في الجبهة ثم تلقّوا الغارة؟ فكما كتبت.. هو شخصٌ عزيز عليه لدرجة أنه عاهده منذ أن خلق على الوقوف معه.
      وأما النهاية فهي نهاية مفتوحة؛ فالبطل في دائرة من الأحداث المكررة، الشيء الثابت الوحيد فيها هي عروبته ونبله وشهامته، ما عدا ذلك تموج به أمواج الحياة غير متوقع ولا راصد لحركتها فيه..
      فهذا في تصوّري أشد وقعاً وتأثيراً.. من أن تنتهي القصة برد الغارة وغنائمها..
      شكراً مجدداً لتعليقك :)

      حذف

إرسال تعليق