هل ستختار الحياة؟ التخطي إلى المحتوى الرئيسي

هل ستختار الحياة؟




إنه مساء الجمعة، حيث من المعتاد أن نقضي ظهيرته متحلقين في مجلس البيت نشرب القهوة ونتناول الحلويات المتوفرة حينئذ، إذ لم نتعمد يوماً صنع حلويات خاصة لهذا اليوم، عدا مرة اشتهيت فيها تقديم السينابون فخبزته.

وبعد صلاة العصر وبعد الفراغ من تناول الغداء يسمح بالانفضاض.. لحاجة كلٍ منَّا لخلوته والدعاء أو لقضاء بعض الواجبات المؤجلة. على كلٍ.. هذا المساء لم يكن كأي مساء جمعة، فوالداي وأخواي الاثنان بالخارج، بينما تنهي أمي بعض الأعمال في حجرتها، فأمضينا أنا وإخوتي الصغار ذاك المساء لوحدنا في المجلس ينشغل كل واحدٍ في شؤونه، لذا لم أجد حرجاً من الانزواء في حجرتي لكتابة مقالٍ حول الرواية التي أنهيت قراءتها فجر اليوم.



رواية "فتاة البرتقال"

قد يضحك البعض من اختياري لكتابة مقالٍ حول هذه الرواية إذ أنني عنونت مجموعتي القصصية بنوعٍ آخر من الحمضيات (الليمون)، لكنها محض مصادفة، فلقد اشتريت الرواية قبل ما يقارب ثلاث سنوات، لكنني لم أشرع في قراءتها إلا قبل أسابيع، ثم توقفت وعاودت القراءة ليلة البارحة.

لم يكن في الرواية نقاط جذبٍ واضحة، لكنها كانت ممتعة، ودافئة وصادقة، كان فيها الكثير من البرتقال، الذي لا أفضل طعمه والذي بالصدفة اكتشفت أن معدتي تتحسس من وجوده فيها، لكن الرواية شجعتني -ولو قليلاً- لعصر برتقالتين أو ثلاث وشربها.

أمتعني عدم استباقي للأحداث، فكنت أقرأ بتروٍ بالغ، بدون محاولات للقفز وتخمين القادم في الصفحات التالية، وحتى التوقعات البديهية التي عندما قصصت على أختي طرفاً من الرواية توقعتها.. لم أتوقعها أنا، بل كنت أتوقع شيئاً بعيداً كل البعد عنها، وتقريباً خارج الصندوق، فطلبت أختي مني بكل احترام أن أعاود الدخول للصندوق.

تطرح الرواية تساؤولات حول الحياة ومغزاها، توقعت تساؤولات أعمق وأكثر لكنها كانت بضع أسئلة، وسؤالٌ واحد دارت حوله الرواية، وعلى كل حال، الذي دفعني لكتابة هذا المقال حول هذه الرواية هو ذلك السؤال.


سأل جون أولاف ابنه جورج:

"تصور أنك عند نقطة من نقاط عتبات هذه الأسطورة (يعني الحياة) في زمنٍ ما، قبل ملايين السنين، حين بدأت كل الأشياء، حينها تستطيع أن تقرر إن كنت ترغب في الخروج يوماً للحياة على هذه الأرض؟ لن تعرف ساعتها متى ستعيش وكم سيطول بقاؤك، ولكنك إن بقيت فلن تبقى إلا زمناً محدوداً، لن تعرف أكثر من أنك إذا اخترت المجيء إلى هذا العالم.. فيوماً عندما يحين الوقت.. أو كما يقال حين "ينتهي الوقت" فإنك لا محالة ستغادر ذلك العالم وتترك كل شيء فيه"


أجاب جون أولاف قائلاً:

"لقد ساءلت نفسي خلال الأسابيع الأخيرة هذا السؤال كثيراً: هل كنت سأختار الحياة لو كنت أعلم أني سأنزع منها انتزاعاً في أي وقتٍ من الأوقات، أو ربما حتى في عز نشوة السعادة؟ أم أنني كنت سأرفض منذ البداية ذلك العرض...؟
... كنت سأرفض العرض رفضاً لا رجعة فيه.
لو قررت أن أتورط في تلك الأسطورة الكبرى لما كنت عرفت أيضاً أي الأمور كنتُ سأفتقدها، إن أسوأ الأمور عندنا نحن بني آدم أحياناً أن نفقد شيئاً غالياً علينا، من أن لا نملكه أصلاً!"

وفي اقتباسٍ آخر قال جورج مستوعباً: "الحياة قصيرة للذين يدركون حقاً أن العالم سوف ينتهي لا محالة" ، إذ قال جون أولاف مرة: "لسنا في هذا العالم إلا لهذه المرة الوحيدة"

فضّل جون أولاف (والد جورج) ألا يخوض غمار الحياة إن كان في الخيار، بينما كان رأي ابنه جورج "سأختار الحياة على هذه الأرض حتى ولو كان لوقتٍ قصير"

اختار جون خياره بينما كان في أيامه الأخيرة في الحياة، إذ كان اليأس يكاد يقتله قبل المرض، وهو يرى ابنه جورج ذو الأربعة أعوام وهو على يقين من مفارقته إياه، ربما اختار جون هذا لكونه غير قادر على تحمّل مشقة ترك زوجته وابنه، كان بأسفٍ يقول لجورج أنه سيختار أن يرفض العرض، ويآمل ألا يختار مثل اختياره إذ أنه سيشعر بالذنب لكونه سبباً (بعد الله) في وجوده.

هل اختار جورج الحياة ليطمئن والده ولا يشعره بالذنب؟ أم أنه فعلاً يختار الحياة؟


وأنا؟ ماذا سأختار إن وضعت أمام هذين الخيارين؟


فكرت لثوانٍ قصيرة، ثم كتبت إجابتي:

أظنني أميل لموافقة جورج في خياره، سأختار الحياة، سأختار أن أخوض المغامرة الكبرى على الأرض، سأفضل أن أعيش مهما كان وقتي قصيراً.. حتى وإن كان لعشرين سنة فقط، عن أن أقف بخوفٍ إزاء المجهول وأرفض بجبن، سأفضل أن أعيش وأرى وأسمع وأحسَّ كل الأشياء بأناملي.


قال جون أولاف معللاً رفضه: "إن أسوأ الأمور عندنا نحن بني آدم أحياناً أن نفقد شيئاً غالياً علينا، من أن لا نملكه أصلاً!"

أتفق معه، لكن أليس أسوأ من هذا كله الندم على شيءٍ مجهول رفضناه جبناً؟ ربما لدى كل واحدٍ منّا -أعني الذين سيختارون الحياة- سبباً خاصاً مختلفاً عن الآخرين، لكن أظننا نتشارك الشجاعة والفضول ذاته، فأنا سأشعر بالندم وربما أتحيّر -إن رفضت العرض- لوقتٍ طويل في صحة قراري فأنا رفضت شيئاً لم أجربه !

وماذا إن كان عيشنا قصيراً ونغادر كما دخلنا... خالي الوفاض؟ أننسى عدد الأيام المحتملة التي ستمتلئ فيها أيادينا؟ هل يمكننا تجاهل حقيقة وجود أيام تغشانا فيها السعادة والفرحة؟ وأخرى يخيّم فيها علينا الحزن، لنميّز بين الإثنين؟ هل سنتجاهل تصابياً افتراض أن نعيش قصة حبٍ ونشعر بانتماءٍ قوي لإنسان آخر اختار أن يعيش؟ أو نتجاهل لذة ولادة حياةٍ كنَّا سبباً في مجيئها بعد الله؟ كنت أتوقع وأتمنى لو قال جون أولاف أن الشيء الوحيد الذي سيحفّزه لاختيار الحياة هو لقاؤه لابنه جورج، لكنه كان رافضاً العرض حتى النهاية.


بعد انتهائي من الرواية وكتابة السطر السابق في المقال، أحمد الله ثلاثاً على الإسلام، على الاختبار الدنيوي الذي يراه الكفار كل الحياة، بينما هو في الحقيقة محطة اختبار نتجاوزها مع آخر زفرةٍ في هذه الدنيا، ليستلم كلُ واحدٍ منّا درجة أعماله فيها ويجزى بها، ثم برحمة الله يدخل الجنة ويعيش فيها العيش الأبدي، الحياة الخالية من الموت والمرض والنكد.

لكن لكون الكفار لا يؤمن أغلبهم بالحياة الآخرة فتجدهم يتمللون ويكرهون العيش ويصاب كثيرٌ منهم بالاكتئاب ولا يرون مشكلةً عظمى في الانتحار، إذ لا يرون جدوىً من العيش ولا مغزىً واحداً يقنعهم بأهمية وجودهم في الحياة، حتى أن بعضهم آمن بتناسخ الأرواح، فهم باستماته يبحثون عن المعنى لكل ذلك.

تعليقات