البيت التخطي إلى المحتوى الرئيسي

البيت



أحب البيت، ويعجبني نص خالد أحمد توفيق عندما قال: "أحب فكرة البيت"، وتدفئوني فكرة امتلاك مساحة خاصة، مليئة بالأحباب، وأحب أن لي شيئاً في الأرض أعود له بظهرٍ منحنٍ وكتفٍ منهك كل مساء فينسيني كل همومي عند أول خطوة على أعتابه..

أحب كيف نمضي ليالي الشتاء متحلقين حول موقد النار، نرتدي ملابس ثقيلة بألوان داكنة دافئة، بالكاد تبزغ وجوهنا خلالها، أحب عندما نضع إبريق الحليب بجوار الحطب ليبقى دافئاً، بينما نغمس الشابورة في كؤوسنا المملوؤة به، نسابق بالشابورة أفواهنا خشية أن تنكسر، فنسبقها مراتٍ وتسبقنا.


أحب كيف يعج البيت بالضجيج أثناء تحضير مائدة الطعام، أو قبل الخروج لأي مناسبة أو موعد، أحب كيف تتحول السلالم لطريقٍ سريعٍ مزدحمٍ بالأرجل، التوقف فيه مستحيل وقد يودي بحياتك وحياة الآخرين، أحب اللحظات التي نستعير فيها أدوات بعضنا لإكمال زينتنا قبيل الخروج، وكيف نحشو حاجاتنا مع صاحب الحقيبة الأكبر.


أحب النهارات الصيفية في البيت، تلك الأيام التي تمتلئ فيها ثلاجة البيت بأنواع المثلجات، ونرتدي فيها أخف الثياب وأزهاها لوناً، ونخرج سوياً للشاطئ أو للمنتجعات، ونلتحق بأحد المراكز أو النوادي الصيفية لنصنع ذكريات ونقضي أياماً حلوة مع أقراننا مستفيدين ومفيدين، أو قد نحزم حقائبنا ونسافر. هكذا يمضي الصيف في بيتنا.


أحب زوايا بيتنا، قد تكون مجرد جدرانٍ للناظر، لكنها أدفأ بكثير في قلوبنا، صنبور الماء في المطبخ الذي مهما ربطناه يستمر بتسريب الماء نقطةً.. نقطة، الممر الطويل في الأعلى الذي يكشف لك الطابق بالكامل، طويلٌ جداً بالنظر، لكننا عندما نقطعه نصل للنهاية فجأة بدون أن ندرك. أحب نافذة الغرفة المطلة على الشارع، تلك الغرفة نعدها من أجمل غرف البيت، ليست الغرفة الرئيسية.. لكنها الأبهى في عيوننا، نافذتها كبيرة، ولا تقع عليها أشعة الشمس شروقاً وغروباً بشكل مباشر ومؤذي، لكنها تتجنبنا وتصلنا في الوقت ذاته، بنورها ودفئها وأُنسها. أحب غرفة المعيشة أو كما نسميها (الصالة) حيث نجتمع ونمضي جل نهارنا فيها، ربما للحديث أو لمشاهدة التلفاز أو حتى للعراك. أحب الساعات التي نقضيها في حجرة أمي، والشعور الذي يخالجنا فيها كأنما كانت هذه حجرة التحكم في العالم، ومنبر إصدار القرارات المصيرية، ومقر الاجتماعات الأول في الأفراح والملمَّات.

أحب المرآة عند مدخل البيت، أول ما نستقبل وآخر ما نودع خارجين، أحب الفرجة التي أطل فيها من خلال السلالم على الداخل والخارج، أحب لون طلاء الجدران، وشكل السيراميك المميز، والحاجز الخوصيّ المتكئ على الممر. أحب النافذة في منتصف السلالم، أحب رؤيتها مفتوحة في النهار، تتسلل إلينا من خلالها أشعة الشمس المباشرة، تعطي للسلالم طابعاً حيًّا مهما خلا البيت من السكان. أحب باب البيت الجانبي الذي ندخل معه دائماً، فبلوغه، وإدراكه بيدي، يعني أنني في البيت، يعني أنني بأمان، وكل شيءٍ سيغدو أفضل عمّا قريب.

أحب مدخل البيت، وباب البيت، وطلَّة البيت من بعيد، والشارع المؤدي للبيت، وبقالة الحارة، وصيدلية الحارة التي تم بيعها للمرة الثالثة مؤخراً؛ إذ أنها تخسر دائماً فيتخلى عنها صاحبها لآخر، أحب اسم شارع البيت، إذ أنه سمّي بلقب للرسول عليه الصلاة والسلام، وطوال طفولتي كنت أظنهم سمّوه لذلك، لكن مؤخراً.. بعد أن بلغت من الكبر عتياً اكتشفت مصادفةً! وبدون بحث في الشبكات أو سؤال أحد الكبار.. كلا، مجرد استيعاب بسيط للاسم الثالث في لوحة الشارع.. أنهم يقصدون شخصاً آخر، لكنني ما زلت سعيداً بذلك إذ أن اللقب يروقني بشدة معنىً ومقصداً ولفظاً.

قد يبدو كل ذلك عادياً لك وربما بسيط، لكنه جزءٌ من قلبي، فكل يوم آخذ هذا الطريق خارجاً من البيت كأنما خُلعت منه، وأعود إليه بذات الطريق كالظامئ المُقبل على المورد، أحب الشجرة الكبيرة بجوار باب البيت، وكيف تكون علامةً واضحة لموصلّي الطلبات "البيت اللي عنده شجرة؟"، والعتبة الرخامية، والمقبض الدائري الذهبي لباب البيت، والخطوط البنية التي صبغناها بالبياض مؤخراً. أحب قبل ولوجه أن أعود خطواتٍ إلى الخلف وأنظر إليه مستشعراً أن هذه الجدران هي من آوتني وأظلَّتني بفضل الله، وسمعت أنيني وضحكي ومرحي والتصقت رائحتي بها، وارتبطت بي، وارتبطتُ بها ارتباطاً وثيقاً، أحب بيتنا هذا كثيراً..




- إذاً؟ كم تريد مقابل بيعه؟


أبرمت اتفاقية البيع مع الرجل، وبارك صاحب مكتب العقار بيعنا وتكفل باكمال المعاملات القانونية لنقل ملكية بيتي لهذا الرجل الغريب، الذي اشترى للتو سنواتٍ عديدةٍ من ذكرياتنا، وأمضيت الساعات أعلِكُ سؤاله المُرَّ في فمي.. كيف لي أن أثمِّن عُمري؟


عدت للبيت وأخبرت أمي أن شاحنة نقل الأثاث على وصول، خلال ساعات كان بيتنا خالٍ منَّا.. نحن أهلُه، بكل ثيابنا وحقائب مدارسنا.. وأحذيتنا التي تزدحم في مدخله، وبكل كتبنا وأوعية طعامنا ووسائد نومنا وكراسي مكاتبنا، بكلالأرائك والسجاد، بأطقم الضيوف التي تدخرها أمي في الرفوف العلوية، بضحكاتنا وصراخنا ولعبنا في فنائه، خلا منَّا كُلُّنا.



استقرينا في منزلٍ آخر، منزلٍ أحدث، وأكبر بعض الشيء، طلاء الجدران مختلف، وشكل السيراميك حديث لكنه شائع، وكل نوافذه كبيرة، لكن السلالم أقصر، لا مرآة عند مدخله، ولا شجرةً كبيرة بجوار بابه، ولا موقد نار نلتف حوله.


خرجت في الصباح التالي والتفتُ لأراه، تساءلت في داخلي "هل سأشتاق في منتصف النهار إليه؟ في خضمّ المشاغل وبين الفكرة والأخرى هل سيخطر في بالي أنني أود الذهاب إليه؟" .. لم أعرف حقاً ما إذا كنتُ سأحبه يوماً، ما إذا كنت سأحبه كبيت ومهرب.



عدت في المساء بخطىً ثقيلة يتردد قلبي في المسير لكن أقدامي تخطو للأمام غير مبالية؛ من شدة ما أجد من التَّعب. عندما لاح المنزل الجديد في الأفق البعيد خالجني شعورٌ غريب.. غير مفهوم، إلَّا أن فيهِ شيئاً من اللهفة. أدرتُ مقبض الباب ودخلت، كانت رائحة الغداء تملئ المنزل، وإخوتي الصغار في إحدى الزوايا يتقاتلون على جهاز التحكم بالتلفاز، بينما يصنع أحدهم وجبةً مليئة بالشوكولاتة خلسة عن أمي المنشغلة في المطبخ، ويرتفع صوت والدي محيياً الداخل.


هذا هو البيت، بأي لون طلاء وبأي شكل سيراميكٍ كان، بموقد نار ثابت أو متنقل، بأشجارٍ عند المدخل أو بلا، هذا هو البيت، بسكَّانه.


قد يكون من الصعب التخلّي عن مكان يمتلئ بالذكريات الدافئة، لكن من السهل أن يتكيف الإنسان على الأماكن الجديدة، وينسج رغماً عنه ذكرياتٍ وأيامٍ حُلوة. الذكرى تخلَّدُ بالأشخاص، وكل الأماكن تفنى وعنها نرتحل.

تعليقات

  1. ترجمتي مشاعر اعيشها خلال هذه الاشهر ! بيتنا القديم لم يباع ولكن صاحبه قرر هدمه وإعادة بناءه وانتقلنا إلى بيت أوسع وأجمل لكن قلبي لا يزال ينتمي إلى هناك فهو هدم ذكريات ومشاعر وأحاسيس وانتماء :"""
    شكرًا لبنى اتطلع لكتابتك القادمة

    ردحذف

إرسال تعليق