ضباب العمر التخطي إلى المحتوى الرئيسي

ضباب العمر



يقول عبدالرحمن منيف: ‏”کنا نهرول نحو الأيام الآتية، كنا نريدها أن تسرع! أن تنطوي! إذ كان هدفنا أن نكبر بسرعة، أما الآن؛ نريد أن نهدئ السرعة أن نتأمل.. أن نقارن.. لكن الأيام لا تترك لنا مجالاً، وهكذا يسيطر علينا الشعور بالأسى والشجن“

ثم يختتم حديثه بسؤال ذو شجون.. سؤال عزيز على الأدب والفلسفة أن تجيبه:
”كنا نركض من أجل ماذا؟
والآن.. نحاول أن نبطئ من أجل ماذا أيضاً؟“


عندما مرّ بي هذا النص القصير لمنيف، شعرت بأنه يحدثني أنا بشكل خاص، ثم بعد أيام من التأمل.. ربما منيف يحدث العالم من خلال نفسه عبر هذا الوصف، فكلنا -إبتداءً منه وانتهاءً بأطفال اليوم- نركض نحو الغد، بحماسٍ غير مبرر، وبتفاؤلٍ غير واضح الوجهة!

لماذا مثلاً لم نخف أن نكبر عندما كنا صغاراً؟ لماذا كنا جميعاً نتفق بأننا نريد أن "نغدوا كباراً"؟

"كبار" ماذا كانت تعني هذه الكلمة لنا؟ الاحترام؟ الحرية؟ المحبة؟ الحلويات؟ ما الذي كان يجذبنا بالضبط لنتفق كلنا على اختلاف بيئاتنا وتراكيب شخصياتنا بأن .. نتمنى أن نكبر؟

أفكر بعمري الآن.. أنا في العشرين من عمري.. ورغم أن سنّي زاخر بالتجارب.. وممتع.. ومتخبط حدّ الانشغال عن حساب في أي العشرين تكون (المعذرة أنا شخصياً اضطر قبل أن أجيب عن عمري للبحث في قوقل)، وتقريباً يصفهم قول الشاعر: ”... إني بما جادت الأيام مشغولُ!“
ورغم كل ذلك..
هل تمنّيت بلوغ الثلاثين مثلاً؟
أو التجاوز لمنتصف العشرينات سريعاً؟
لا، لم يجل ذلك في خاطري قط..

هل وصلت للتمهل والتأمل الذي ذكره منيف؟ ربما ليس بعد، أظنني أمر بشيءٍ أهمله منيف، وربما أهمله عن قصد..

ما بين الطفولة المتلهفة لحياة الكبار، وما بين سن الكبار حقاً، تكمن هناك مرحلة العشرين.. مرحلة لا تملك فيها أن تتأمل وتهدأ حتى، كل ما فيها يدفعك لاتخاذ القرارات المصيرية! وبوتيرةٍ سريعةٍ لا يمكن معها إلتقاط الأنفاس في بعض الأحيان!
كخوض عباب الدراسة الجامعية وتحديد التخصصات والميول العلمي والمهني، تجربة التطوع في مختلف المجالات، اكتشاف المواهب والهوايات، تنمية العلاقات وتطوير الجوانب والدوائر الاجتماعية، خوض تجربة العمل، وعلى ضفافٍ أخرى خوض الحياة الزوجية والإنجاب ومن ثم التربية..
ولذا أزعم أن من هم في سن العشرين مشغولون جداً عن التمنّي والتطلع للعقد الرابع من العمر (سن الثلاثين)..

ثم هم فجأة.. يصبحون في سن الثلاثين كباراً بما فيه الكفاية!
ولانشغالهم الشديد خلال السنوات الماضية، وزعمهم أنهم لم ينالوا المتعة الكاملة ولم يتلذذوا بأيام شبابهم الأول؛ فبأسف.. يتمنون أن تبطئ عجلة العمر.. ليتأمّلوا، ويضحكوا بتروٍ بالغ.

لكن… ما الذي فقد استشعاره أبناء الثلاثين حتى يغشى قلوبهم ندم التفويت؟

حرية الشباب؟ سهولة الوقوع في الأخطاء؟ روح الحماسة والمغامرة؟ اللحظات الأولى في كل شيء؟ الركض خلف الذات بحثاً عن إجابات؟ أيام الدراسة وحفلات الجامعة والمناسبات؟ الأيام الأولى لتبرعم الحب؟ أول خطوة مرتبكة خارج الأسوار؟ أم لحظات الشغب في المنزل والتقلب مللاً على السرير؟

أيُّ هذه ضايقهم فواته؟

بقدر ما تكون هذه الأمور صاخبة ومليئة بالتوتر والضغط في حينها، إلَّا أنها ستكون حُلوة.. ممتعة.. دافئة.. سعيدة، عندما نتذكرها في المستقبل!
فبدلاً من أن يهدر أبناء الثلاثين عقداً كاملاً لمطالعة العقد السابق، والاستئناس بذكراه، والعيش على عطره..
ماذا لو عاشوا عمرهم؟ ماذا لو بكل حواسهم عاشوا سنين الجامعة بكامل تفاصيلها، بدروسها الصباحية والمسائية، بصفوفها الثقيلة وأساتذتها المتنوعين، ماذا لو عاشوا كل لحظات الزواج وصبوا تركيزهم فيها.. لأيام الخطبة حتى العقد مرورا بليلة الزفاف وصولاً لشهر العسل، وحوّلوا أيام عمرهم كلّها عسلاً.. فلا يساورهم ندمٌ ولا شعور تفويت ما حيوا، ماذا لو عاشوا بما يقضيه الله عليهم ويفتح!
لماذا يدخلون -بكامل قواهم العقلية- دوامة الذكريات اللانهائية؟ حتى عندما يبلغ بهم العمر مشارف الأربعين.. يقفون بقلق على أبوابه ويتأملون الثلاثين الراحلة
فكأنهم يعيشون العمر لتضييعه !

يقال:
”الذكريات حلوة
نها ذهبت، ولو عادت لكرهناها“

أفكّر مليًّا في ذلك، وكل مرة تختلف إجابتي، يعتمد الأمر على نوعِ الذكرى، لكننا في كل حال.. لا نريد أن نخوضها مجدداً.. ولو في جزءٍ صغير فينا.. نتمنّى أن لا يعود شيء، وأن نمضي للأمام.. ففيه إثارة أكبر، وفي طيّاته ما ندعو له ونبتهل..

أتذكر الآن سؤالاً عبثياً نطرحه على بعضنا عندما يبلغ بنا الملل مبلغه:
"تتعشى إندومي كل يوم ولّا تعيد تدرس من أولى إبتدائي من جديد؟"
ومهما كان الخيار الأول بشعاً وصعب التحمّل.. سنختاره؛ مغامرين مقدمين أي تنازل مقابل عدم العودة للوراء، لأنها لحظة عقلية..
أما في لحظات الشجون، والتأمل والتوجد وسرد الذكريات.. تغلبنا العواطف وتتملّكنا، فنقول بعد أن سكرنا بمشاعرنا "يا ليتها تعود"..


ماذا عنكم؟ بتتعشون إندومي كل يوم ولا بتعيدون الدراسة من أولى إبتدائي؟

تعليقات

  1. كلما تبحر الإنسان في طيّات ذكرياته؛ ضاق عليه واقعه بما فيه، فلا هو في حاضره مستمتع ولا في ماضيه عائد، وأعتقد أن الإنسان لحريٌ به أن يتحكّم حق التحكم مع ما يغشاه من مشاعر ماضيةٍ وذكرياتٍ منهمرة، فلا يسمح لنفسه أن تسترسل هائمةً بذكرياتها بلا طوق نجاة يمسكها، وهذا من الصعب بمكان حقيقةً..
    فالإنسان إن لم يكن في ماضيه مستذكر كان لمستقبله منّان متأمل.. فيصبح صباحه متأملًا ويمسي مساءه بالليل مستذكرًا= بلشة هالإنسان


    بختار اندومي وأعزم عليه ربعي بالفصل

    ردحذف
  2. بكاااء بكاء بكاء طويل عريض لا نهاية له، ما اعرف اذا هذا البكاء يراودني الآن وأنا بعمر ال ٢٢ ايش راح اسوي بعدين 🥲 مقال عميق شكراً لك

    ردحذف

إرسال تعليق