متلازمة النهايات السعيدة التخطي إلى المحتوى الرئيسي

متلازمة النهايات السعيدة




عند قراءة رواية أو عند سماع قصة حب تراثية، أو حتى عند مشاهدة فلم أو مسلسل (إسلامي وفق الضوابط الشرعية طبعاً)، ألا تلاحظون شيئاً مشتركاً في أغلبها؟

من خلال مشاهداتي وقراءتي وجلوسي الطويل لسماع قصص الأكبر سناً منذ طفولتي، حتى عُرف عني حبي للقصص، فكلما بدأ أحد الكبار بسرد قصة (أياً كانت) تناديني أمي: "لبنى تعالي اسمعي القصة!" وتؤكد للراوي بصوتٍ منخفض "لبنى تحب القصص"..

ربما لهذا أنا أحكي القصص؟ لأذيقكم المتعة التي تلذذت بها؟

على كلٍ.. عندما نكتب قصة فإننا غالباً نتبع منهجاً معيناً لتسلسل الأحداث، وقد يختلف من قصة لأخرى، لكن على الأغلب تبدأ كل القصص بوتيرةٍ شبه هادئة وتعريفية للمكان والزمان والشخصيات، ثم تتسارع الأحداث وتكثر المشكلات يميناً وشمالاً وهذا ما نسميه بالعقدة، ثم بوتيرةٍ أبطأ وأحياناً أغبأ.. تفك العقدة، ثم في النهاية تختم القصة بسعادة. توجد نهايات حزينة لكن في الغالب تكون سعيدة لأن ولهذه المرة فقط (الجمهور عايز كده)، وأستطيع تبرير ذلك اقتباساً من نصٍ قرأته: "في الحياة الواقعية ما يكفي من النهايات الصعبة وغير المحببة وغير المتوقعة، لذا على الأقل.. في عالمٍ حر نتمكن من التحكم فيه يحق لنا التمتع بنهاية سعيدة". وأجد في ذلك مبرراً أكثر من كاف لرواج النهايات السعيدة في مختلف الإنتاج الأدبي.


لكن.. لماذا لا يعيش القارئ أو المشاهد هذه السعادة؟

تأتي النهاية بعد سيلٍ من المصاعب والمحن والتضحيات وشيءٌ لا بأس به من الألم والحزن والدموع..

ثم بعد أن شاركنا أبطال القصة كل تلك المعاناة، وصبرنا واحتسبنا، ووثقنا وأحسنَّا الظن بالله بأن القادم أجمل .. تنتهي القصة؟!

ماذا عني أنا؟ القارئ المسكين الغلبان؟ هكذا أترك فجأة؟ .. بعد أن جرجرني الكاتب في أرجاء المعمورة وعذب قلبي وأسهد جفني قلقاً على الأبطال .. هكذا فجأة في نهاية القصة عندما (أخيراً) وصلنا للحظة السعادة، و (أخيراً) ستعم الفرحة والأنس أرجاء المكان! و(أخيييراً) ستنفرج أسارير الأبطال وتُرسم البسمة على وجهي قبل وجوههم .... عند هذه النقطة المنتظرة فقط.. تنتهي القصة! وكأن الشعب المستضعف الذي كُتب له أن يتبلى ويقرأ هذه القصة حتى يتمّها محكومٌ عليه بالنكد والحسرات؟ أيُبخل علينا بلحظة صفاء؟ أو يعني للمصداقية وما دام المنبر متاح الآن فأرفع مستوى مطالبي، وأطالب بأسبوع سعادة وراحة وصفاء بال وفطور مليء بالضحك وليالي سمر مليئة بالحنية والدفء والذرة المشوية، ولبعض اللقطات التي يعذب فيها الشرير ويتجرع الأمرّين.. شيء من قبيل "برد الخاطر".


لماذا تقرر المنتجات الأدبية التوقف عند هذه النقطة؟ هل لأن ما بعدها "عادي" لدرجة أنه لا يستحق الذكر؟ أفي حياتنا ما لا يستحق الذكر؟

ذلك يعود بظني للصورة التي رسمها المنتج الأدبي للحياة الواقعية الإنسانية، وهي للأسف تختلف كثيراً عن حياتنا التي نعيشها، فعلى سبيل المثال:

عقدة القصة/ هي مشكلة قد تكون قديمة وقد تكون حديثة لكنها ظهرت فجأة في منتصف المنتج الأدبي وعاثت الفوضى في العالم ثم انتهت بنهاية القصة.

السؤال: ألن تكون هناك عقدة أخرى؟

في الحياة الواقعية توجد عشرات العقد، بعضها تعايشنا مع وجودها وتقبلناها، وبعضها خامل، والآخر حيٌّ نعارك فيه، بينما تخبرنا المنتجات الأدبية باستمرار أن بعد أن تنتهي هذه العقدة التي عرضها المنتج الأدبي في القصة.. ستصبح الحياة "وردية" وفل وريحان وابتسامات مليئة بالسعادة، ولن تطرأ أي عقدة إطلاقاً بعد أن وصلت لشارة النهاية أيها المشاهد، وكذلك لن يحدث أي شيء يفسد السعادة بعد أن وصلت لجلدة الكتاب يا أيها القارئ.


كتب في نهاية أحد الكتب:

"خاتمة ..

في الواقع لا توجد خاتمة.. فلكل نهاية امتدادٌ يبدأ به كل شيء".


عموماً هذا الإيهام المستمر المتكرر على نفس النسق والطبيعة جعل الناس وخصوصاً حديثي السن وقليلي الخبرة يعتقدون أن في حياتهم ما يسمى بـ (فترة أزمات)، ويتغنّون بذلك الاقتباس الشهير "فترة وتعدّي" متوقعين بكامل وعيهم أن بعد هذه "الفترة" تنتظرهم الحياة الوردية، وحتى أن سريالياً أكمل العبارة فقال: "لكنَّهُ عمري"، بغض النظر عن مقصده، فحياة الإنسان في هذه الدنيا بكل واقعية مجرد فترات تتلو بعضها وفعلاً "بتعدّي" لكن ربما ليس إلى حياة وردية دائمة، ربما شهر ربما أسبوع، ربما لفترةٍ أخرى!

مع تراكم هذا المُدخل على اللاواعي صار بعض الأشخاص على يقين من وجود حياةٍ وردية تغرد فيها الطيور.. وترقص الأزهار.. والبانكيك لا يحترق ويوضع بشكلٍ متساوي فوق بعضه البعض، وتجلس فيه العائلة -متحابة ناسية كل المشاكل والمصائب التي حدثت منذ صفحات قلائل- على مائدة واحدة ليتناولوا إفطارهم في الساعة السابعة صباحاً في يوم عطلة! وهذا شبه مستحيل.

هذا النمط من النهايات ولّد ما يسمى بالاستحقاق العالي، يتوهم فيها الإنسان أنه يستحق كل السعادة، وإن كان رجلاً أو امرأة فهو يتوقع بناءً على استحقاقه العالي أن يرتبط ويتزوج شخصاً يوازي يوسف عليه السلام في جماله، ويقارب التوحيدي وأشهر الأدباء في حسن بيانه، وطبعاً أن يحبه حباً يعادل بحار الأرض في اتساعه. وأيضاً يتوقع أن يحصل على كل شيءٍ طيّب، وعلى كل الحب والتقدير، وأن يبلغ -باستحقاقه فقط- المناصب الرفيعة المرموقة، وأنه طبعاً يستحق أن يشار له بالبنان بأنه ذكي وجميل ومتفوق، والمصيبة أن كثيراً من هذا الجيل مصابون بهذا الداء.. فمن إذاً سيكون صاحب البنان الذي يشير إليهم إن كانوا كلهم يريدون أن يشار إليهم؟ وعموماً.. على ماذا استحقوا كل ما طلبوا؟

على النقيض من ذلك تكمن الشخصية المهزوزة التي تشعر بأنها لا تستحق شيئاً وأن ابتسامة عابرة من غريب تجعله يستحق العيش، وأن المحبة كثيرة عليه، والموت راحة للناس منه، ومزاحمته للبشر في الغذاء والهواء والماء مجرد مضيعة وخسارة في الموارد، فتجده يتنازل كثيراً ولا يتحدث وليس له رأيٌ في شيءٍ البتة، وإن صاحبه صاحب عانى معاناةً أسوأ من معاناته التي كانت، فصار كل فعل تقرب ومحبة وإحسان.. يتلقاه بخوف وقلق، فلا يرتاح حتى يعود وينزوي لوحده، ولن يرتاح.


وجاء اقتباس قال كاتبه فيه: "قيمة الإنسان الحقيقية هي بالطريقة التي ينظر بها إلى نفسه، لا بالطريقة التي ينظر بها إليه الآخرون، لا أحد يستطيع إذلالك ما لم تكن أنت تشعر بالإذلال في داخلك فعلاً، ولا أحد يستطيع رفع قيمتك ما لم تكن أنت تشعر بقيمة نفسك."


وإجمالاً فكلا النوعين متطرف وبشدة عن الطبيعة السوية، فكما نحتاج الحب.. يحتاج الآخرون له وبذلك نأخذ ونعطي، نحتاج النصح والمشورة لأننا لسنا بكامل المعرفة وينقصنا الكثير دوماً، نبرع في شيء دون سواه فكما جاء في المثل "صاحب الصنعتين كذاب"، نبلغ المراتب والمناصب لا ﻷنه جال في خواطرنا أننا نستحقها؛ بل لأننا "كدحنا" فنلناها. الحياة معادلة واضحة في الأخذ والعطاء، فبقدر ما تعطي دروسك بقدر ما تُجيب في الامتحان، بقدر ما تعمل في الوظيفة تحصل على ترقيات.. أو على أقل تقدير تتقن الصنعة وتبرع فيها، بقدر ما تنفق ستأخذ.. لكن بطريقة مختلفة.


استحقاق السعادة واستحقاق الحب، ولّد جيلاً مغروراً يظن أنه يُكرم جدته إن جلس واستمع لحديثها عصر الخميس، جيل يرى إجابته على رسائل الواتساب منقبةٌ للسائل، جيل يرفعه "ريتويت" و"لايك" ويخفض منه "انفولو" وحملة "سبام"، جيلٌ هش، يتقلب بين الاستحقاق العالي وبين انحطاط الاستحقاق. وبذلك خرجنا بأرواحٍ متعبة لا تجيد العيش في الغابة.

فهذه ليست الحياة التي نعيش فيها، ولا التي عاشها الرسول عليه الصلاة والسلام ولا صحابته الكرام..

"جاء في تفسير قوله تعالى: (لَقَد خَلَقنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) - البلد:4

قال سعيد بن جبير: في شدة وطلب معيشة، وروي عن الحسن: يكابد مضايق الدنيا وشدائد الآخرة... انتهى بتصرف

ولا شك أن الدنيا دار بلاء ومشقة وعنت لحكم يعلمها الله، ولعل من الحكم في ذلك أن لا يركن الإنسان إلى الدنيا فيخلد إليها ويظن أنها نهاية المطاف، ولكن إذا جاهد فيها فسيتعلق قلبه بدار لا نصب فيها ولا وصب، وسيشتاق إلى جوار الرحمن في جنة الخلد، قال صلى الله عليه وسلم: (إن عِظم الجزاء مع عِظم البلاء) وقيل للإمام أحمد: متى يجد العبد طعم الراحة؟ قال: عند أول قدم يضعها في الجنة."
(١)


وكما يقول الشاعر أبو الحسن التهامي:
"طبعت على كدرٍ وأنت تريدها … صفواً من الأقذاء والأكدارِ"


وأتذكر اقتباساً عزيزاً قرأته عشرات المرات:

"وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لما خلق الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي)

ومن صور رحمة الله بعباده ما ذكره ابن القيم رحمه الله بقوله: ومن رحمته سبحانه ابتلاء الخلق بالأوامر والنواهي رحمة لهم وحمية، لا حاجةً منه إليهم بما أمرهم به.

ومن رحمته أن نغّص عليهم الدنيا وكدَّرها؛ لئلا يسكنوا إليها، ولا يطمئنوا إليها، ويرغبوا عن النعيم المقيم في دراه وجواره، فساقهم إليها بسياط الابتلاء والامتحان، فمنعهم ليعطيهم، وابتلاهم ليعافيهم، وأماتهم ليحييهم."
(٢)


فحال الدنيا التقلّب، ويكفي بالموت منبهاً أن لا دوام! فلا شيء أصحى للغفلة منه، فإن أدركت أن الدنيا لا تثبت على حال، وأنها عقودٌ وترحل.. كما رحل الملايين قبلك، شريفهم وذليلهم، ملكهم وخادمهم، وكما رحلت الدواب والبهائم، وكما سترحل مناصبك ويذبل جمالك وتخبو جذوة الشباب فيك، فكل قمة تؤذن بقاع، عندها ستعيش أهدأ نفساً، وأقرب -ولو قليلاً- من الفطرة البشرية السوية، التي تنصف في حق نفسها فإن خيراً فخير، وإن شراً فشر.

وكما قال ابن عباس رضي الله عنه: "من لم يجلس في الصِغر حيث يكره؛ لم يجلس في الكبر حيث يُحب"، فمن لم يزرع اليوم ليس عليه أن ينتظر ثمر الغد، فهل تعرفون مزارعاً يرمي بذوره ثم يقف من غده غاضباً متوقعاً باستحقاقيته العالية أنه أكبر وأجل وأعلى من الانتظار لأسابيع!


جاء الإسلام ليهذبنا ويجعلنا أكثر صبراً وأشد ظهراً، أن نعمل اليوم قاصدين الله وحده، لا ننتظر جزاءً ولا شكوراً، لا نثني ركباً ولا نمد يداً إلا والله بين أعيننا، فإن رأينا جوائز ما عملنا في الدنيا؛ شكرنا الله على فضله ونعمه، وإن لم نجد إلا الامتحان والكبد وضيق العيش؛ صبرنا واحتسبنا عند المولى، ولم يسري في نفوسنا شكٌ أن الله ضيّع لنا إحساننا لعبيده ولا صلاتنا وعبادتنا لوجهه جل وعلى، بل إنه يدخرها لليوم العظيم، وإنما ما نمر به من جراحات ما هي إلا قشورٌ من ذنوبٍ ومعاصي برحمة الله وحدها يطهّرنا منها فنموت كما لم تَجرح جوارحنا قط.



_________________________________________________________________________________
(١): فتوى في إسلام ويب الرابط
(٢) مقتبس من كتاب نضرة النعيم في مكارم الرسول الكريم الرابط

تعليقات