رصيف الانتظار التخطي إلى المحتوى الرئيسي

رصيف الانتظار




ما موقفنا من الانتظار؟

جرّني الحديث الطويل هنا وتقليب الأبيات وتأملها بيت شعر للبردوني قال فيه:

هذا الذي سميته منزلي
كان انتظاراً قبل أن تدخلي


قد يكون الانتظار صعباً وقد يكون رمادي اللون ومبهم الحال، لكن بقدر كل ذلك التشوّش يكون أمل اللقاء، وبقدر كل هذا الشتات الذهني والعاطفي يكون الصبر.. تغنياً بالمثل الشعبي "من صبر نال". إلا أن للانتظار حلاوة، ربما تكون حلاوةً لاذعة إن كان انتظاراً بلا موعد، لكن ماذا إن كان انتظاراً إلى أجلٍ مسمى؟ مؤقتاً لنهايته مذ بدأ؟ أيكون أخفّ وطأة على النفس المتلهفة أم يكون أصعب وأخنق؟

بظني أن وضوح النهاية أسلى للنفس، وآكد للبلوغ وأشرح للخاطر وربما.. يواسي المحزون كلما انقطع به الرجاء. أما الانتظار إلى أجل غير مسمى رغم ما فيه من اليأس والضيق، إلا أن -بحمد الله- فيه من السعة والأمل، فإن كان أمد الانتظار غير واضح ففي ذلك ما يبعث في النفس كل دقيقة ما يجدد أملها، فيجول في الخواطر "ربما الآن ينتهي كل هذا!"، فيعود الغائب، ويشفى المريض، ويخرج من توارى خلف الظلال لسنين، "ربما الآن وفي هذه اللحظة تفرج!" بهذا الأمل واليقين بكرم الله وعونه يعيشون، فكما يقول الطغرائي في بيت مشهورٍ له:

أعلِّلُ النفس بالآمالِ أرقُبُها
ما أضيقَ العيشَ لولا فسحةُ الأمَلِ


فيكون المرء مع نفسه كما يكون مع الطفل، يخادعها بقرب الوصول، يخادعها بقرب الفرج، ونفسه تنخدع طبعاً! فتظل ذات الخدعة تنطلي عليها دهراً ولا تتبيّن صدقها، وهذا يعود من ناحيةٍ أخرى لرغبة المرء الشديدة بالتصديق، يريد بكل جوارحه أن يكون الفرج قريباً كما يتمنى.

وقد يكون للتحلّي بالأمل حاجةً ملحة لا يمكن العيش من دونها في ظل الظروف المحيطة بالإنسان، فكما قال الشاعر الذي يكنّي نفسه بمكلوم (فرج الله أساريره):

أعوذُ باللهِ أن أحيا بِلا أملٍ
أو أن أموتَ.. وقد أودى بيَ الأملُ


لا أفهم الشطر الثاني.. ولا أعرف إن كان يقصد جاهزيته التامة للموت مقابل أن يعيش على أمل. أو أنه كان يتمنى ملء قلبه أن يتوقف عن الأمل ويعيش الحقيقة قبل وفاته، سواءً الحقيقة المرة باستحالة الأماني، أو الحقيقة الحلوة بتحققها. على كلٍ أفضل أن أموت على أمل على أن أموت وقد أكلني اليأس.

ويقول البرودني أيضاً في سياق شحذ الهمم للصبر:

فالغصنُ يُنبتُ غصناً حين نَقطعه
والليلُ يُنجبُ صبحاً حين يَكتملُ
سَتمطر الأرضُ يَوماً رغم شِحّتِها
ومِن بطونِ المآسي يولَدُ الأمل


وقيل:

لا تحسب المجد تمراً أنت آكلهُ
لن تبلغ المجد حتى تلعق الصَّبِرَ


والمقصود بالصبر هنا هو الصبّار أو البرشومي والله أعلم. فكونك تلعقه ثمناً لبلوغ المجد فهذه تضحية كبيرة بنعمة الكلام والبيان.

وقال شاعر على ذلك:

لا يُبلغُ السؤلُ إلَّا بعدَ مؤلِمةٍ
ولا تتمُّ المُنى إلَّا لمن صَبَرَ


وفي كثيرٍ من الشعر العربي البدوي والحضري والجاهلي، وأزعم حتى في الأجنبي.. يصوّر الصبر كطريق صعب مليء بالمعوقات على حدوده تغرس السكاكين وبين ثناياه آلاف القنابل الأرضية، يعج بالضباب فلا تدري موقعك في الطريق ولا تعرف كم بقي على بلوغ النهاية، وإن ساورتك المخاوف ودرت حول نفسك دورة كاملة.. للأسف قد تفقد الطريق، وقد تطأ السكاكين التي تزخرف المكان، وقد تقف متوجعاً ماسحاً على جروحك مطبباً لها بدموعك المالحة التي تزيد الأمور سوءاً، منتظراً بكل أسىً أن ينقشع الضباب وتهتدي للطريق، أو أن يكرمك المولى فيسخّر لك من يرتدي نظارات مضادة للضباب تستجلب بدعاء الله الهداية و (اللهم أرني الحق حقاً وارزقني اتباعه...)، فيمسك يدك ويقودك لنهاية الطريق.. لنهاية الصبر، للحظة بلوغ المنى أخيراً!



لكن ماذا إن لم تمتد إليك يد؟



عندها اقترح عليك شخصياً بتأجيل مداواة الجراح، وحمل أي سكين، والتقدم للأمام بينما تدندن نشيداً وطنياً، أو حتى موشحاً أندلسياً واقترح إن أخترت أن تنشد موشحاً أن تبدأ بـ (قف بنا يا صاح نبكي المدنَ) من باب المواساة لجراحك التي تجاهلتها. وعلى كل حال كن كما تصف منال الدغيّم الشجاعة، فتقول:

‏كصهلةِ الخيلِ.. كالأمطارِ.. كالفلقِ
‏تأتي العزائمُ، فاغنمها ولا تُعقِ!
‏أنتَ الإرادةُ إن غارت مواردُها..
‏شُدَّ اللجامَ على الآمالِ وانطلقِ!


وربما بعد هذين البيتين ستسيل جراحك أنهاراً من الدماء إثر ركضك الشديد انتشاءً!

إجابةً على السؤال السابق اختار بعض الشعراء الانتظار.. وربما لذوقياتهم الصعبة فهم قرروا انتظار يدٍ بعينها، هكذا فقط قرروا التسليم، ولا يهمهم موضوع الجراح، ولا يكترثون بدعوات الأيادي التي تمتد لهم لتصحبهم لنهاية الصبر.. حيث المنى. بل إن الشعراء -كما سأذكر لاحقاً- دراميّون، ومحبّون للمعاناة بشكلٍ من الأشكال، ويعشقون فكرة القدر.. أن يلتقي رجل بامرأة بعد عشرات عروض الزواج للطرفين.. ويتزوجان! أو أن يسافر الرجل ويقطع صحراء الربع الخالي بلا زاد لأجل أن يظفر بحبيبته الساكنة في وسطها! أو أن يسافر (كما فعل ابن زريق رحمة الله عليه) من العراق حتى الأندلس.. ليمدح رجلاً يتوسد كرسياً وضع لأجل الإمارة، فيأخذ من بعد ذلك من المال ما "يدسّم شواربه" فيعود لحبيبته في العراق ويكرمها كما تشتهي نفس البدوي أن تهدي للحبيب!

وهذه نظريةٌ أخرى تحدثت بها مع صديقتي وحاولنا لمدة دقيقتين تداول سبب ميول البدو والرجال بشكل خاص لإنفاق المال على النساء في محاولةٍ شهمة ونبيلة للتعبير عن حبهم. ولا أرى في شرحها أطول مما كتبت.

نعود لحديثنا عن الشعراء الذين يدخلون طريق الصبر متأهبين للجلوس فيه، لأجل أن يكتبوا ملحمة تاريخية يتناقلها الأجيال عن تمنّع حبّهم ومكابدتهم لإنجاحه، وكأن هؤلاء الشعراء لهم حياة غير التي نعيش، أو أنهم يختلقون حياة للشعر وأخرى يعيشون بها مثلنا. (¹)

يكفيك في ذلك قول ياسر الأقرع: "‏وكيف أحبكِ دون احتراق؟"

ويقول ياسر أيضاً في أحد قصائده متغزلاً بامرأة ما -كما يفعل كل الشعراء-:

لعينيك سحر انتظار القصيدة
ووحي كوحي الأماني البعيدة
وما في غيابك إلا الحنين..
أسائل عنكِ انكسار المكان
أفتّش خلف اندثار الثواني
وأصغي لوقع خطى العابرين..
لعلَّكِ أنتِ!
لعلّ حضوراً يضمّ حياتي
من الغيب يأتي
يحطّمُ صمت القصيدة
يخطو على نزف وقتي
لعلّكِ أنتِ ..
كأنكِ أنتِ ..
لو أنكِ أنتِ ...


ويصحو الغيابُ!
يكفّن حلماً..
ويرمي إلى الريح ما تدّعين..
وأبقى لعمرٍ..
على ضفة الحلمِ.. وحدي
كأني حطام انكساراتِ وعدي
كأن حياتي .. نزيف انتظارٍ
ستمضي ... وأمضي
ولا تحضرين..


وهذا بالضبط ما وصفته لكم لحالة الشاعر في رحلة الصبر الضبابية التي يمضي جلّها في انتظار المجهول أن يشرّف!

يقول ياسر الأقرع أن لعينيّ المحبوبة ما يسمّيه (سحر انتظار القصيدة)، ووقفت لأيام -منذ أن نويت الكتابة عن هذا الموضوع- أفكر بماهية سحر انتظار القصيدة؟ و
نني لست شاعرة فكان ذلك أمراً صعب التخيّل، فحاولت أن أغيّر الجملة بما يناسبني، سحر انتظار اكتمال الفكرة.. القصة.. الحبكة.. حرارة الرأي المحبوس في الصدور، وهكذا أظن الشعر؛ تدفعه ذات الدوافع التي تدفع الكاتب النثري ليكتب، كلهم يريدون الحديث.. وبشدة، ولا طاقة لهم بالانتظار! مع ذلك يلذ لياسر أن ينتظر القصيدة لتتكوّن في نفسه وعقله، يروق له ذلك بشدة لدرجة أن يسحره ذلك! ولأنه شاعر وأحب شيء يقوم به الشاعر هو كتابة الشعر -حسب ما أظن- فاختار أن يصفها بأحب اللحظات لنفسه، لكنها للأسف لا يمكن أن تشملها كاملة، لا يكفي سحر انتظار القصيدة أن يصف ضحكاتها، شعرها، ويديها، وطريقتها في الكلام، وصوتها عند الغضب.. لا يكفي أبداً، ويمكنه أن يختزله فقط في عينيها.

وفي النهاية بعد أن تمنّى أن تكون الخطوات في طريق الصبر والمتصبّرين أو العشاق الفاضين تخص محبوبته، ويضل في تلك الأماني حتى يستيقظ من حلمه المستحيل، فيقول (وأبقى لعمرٍ.. على ضفة الحلم وحدي) وبذلك يعلن أنه سيبقى على الطريق لين تصل محبوبته أو تقريباً كما يقال: (
قعدنَّ على الطريق وأشتكي) ويا تجي المحبوبة.. يا والله ما أتحرك! لكنه مؤمن بهذه النهاية.. بعدم وصول المحبوبة فيقول في آخر قصيدته: (كأن حياتي نزيف انتظار.. ستمضي.. وأمضي.. ولا تحضرين). يقين بمأساة النهاية. تحسب له نقطة.

وعلى صعيدٍ آخر يقول فيصل الكناني في سياق انقطاع الرجاء:

وكم مِن ضيقةٍ فِي الصَّدرِ هلَّت
ونَفسِي فِي انتظارِ لقاك مَلَّت


لكنه يجدده بعدها فيقول:

فلا واللهِ ما كَلَّ اشتياقي !

ثم بأسفٍ يبرر قنوطه في البداية:

ولكنَّ الأيادي عنك شُلَّت..


ويقول فاروق جويدة أيضاً، بعد أن وجد اليد التي انتظر، وخرجا سوياً من الطريق الموحش الضبابي وعاشوا حياةً ملؤوها الأنس، لكن اختلفت الأيادي، فعاد وحيداً ليجلس من جديد على ذات الطريق:

اليوم سرنا ننسج الأحلام
وغداً سيتركنا الزمان حطام
وأعود بعدك للطريق؛
لعلني أجد العزاء
وأظل أجمع من خيوط الفجر..
أحلام المساء..
وأعود أذكر كيف كنا نلتقي
والدرب يرقص كالصباح المشرق
والعمر يمضي في هدوء الزئبق..


ولعله أصيب بعدها بهلعٍ أو بعقدةٍ معينة، فتخيفه كل الأيادي التي تمتد له؛ وإن كانت تلك التي ينتظر، فيقول:

الزهر يذبل في العيون
والعمر يا دنياي تأكله السنون
وغداً على نفس الطريق سنفترق
ودموعنا الحيرى تثور وتختنق
فشموعنا يوماً أضاءت دربنا
وغداً مع الأشواق فيها نحترق


ويقول الهادي آدم في قصيدةٍ أخرى، وعلى ما يبدو بقي القليل ويقتله طول الانتظار:

أغدا ألقاك؟ يا خوف فؤادي من غدي..
يالشوقي واحتراقي في انتظار الموعد

ويكرر في نهاية القصيدة سؤاله بقلق وتأكيد "أغداً ألقاك؟"، فإن لم تسمع المحبوبة السؤال الأول فجزماً ستسمع الثاني!


ووقفت على نصٍ شعري لروضة الحاج، تعلن فيها التمرد على سياسة الشعراء الآنف ذكرها، فقالت:

تغيّرتُ؟ ‏لم أتغيّر ‏ولكن
‏تخطيتُ خوفي
‏تخلصتُ من عقدتي للأبد!
‏وأطلقتُ روحي من القيد
‏أطلقتُها كالحماماتِ
‏مزهوّةً في سماء البلد
‏وأحببتُ نفسي قليلاً ‏ودلّلتها
قدرَ ما كنتُ أقسو عليها
‏فتحرجُني بالجَلَد!
‏تغيرتُ؟ ‏لم أتغير
‏فقط..
‏قد هزمتُ الترقبَ
‏غلّقتُ نافذتي
‏لم أعُد ‏في انتظارِ أحَد


وأتخيّل أنها قالت البيت الأخير وهي تنزع السكاكين العالقة في باطن قدمها بصلابة، وتمضي لنهاية الطريق بدون أن تلتفت.



____________________________________________________________

(1): للأمانة الكتّاب النثرييون يمرّون بهذه الحالات أيضاً، وشخصياً أدمنت لفترة ما العيش في عالم أتخيله وأبني فيه شخوص وأحداث ومشاعر ثم أكتب عنه، وأهجره، لأعيش في آخر جديد، لكن لتأثير ذلك السلوك على حياتي الحقيقية توقفت عن فعل ذلك، وقررت أن أتلمّس الحيوات الأخرى من خلال ما أعايش في حياتي الحقيقية. وعموماً كل هذا جنون، كل كاتب نثري أو شعري فيه مسحةٌ من جنون تتوارى خلف تصفيق الجماهير أو إدعاء النقاد بأن المحتوى "إبداعيّ!".

بعد قرائتي للحاشية مجدداً بعد يومين قلت وأنا أضحك "قنبلة!"

تعليقات

  1. النفسُ والصبر ضدّان لا يجتمعان، فالأولى متلهفةٌ للقريب العاجل والآخر عليها وفيها دامغٌ مُقاتل.. فمن قويت نفسه عليه شقَّ عليه الصبر كل دقيقة ولحظة، بل وتوغّلت إليه المواجع وتعاظمت كالشوك ينبش كل عرق بجسمه وينتشله؛ لكن لو هذّبنا تلك النفس وأدّبناها، وعلّمناها أن الدنيا ليست ورديةً لامعة، والحياة ليست بأسرها خلّابةً آسرة، واستحضرنا عظيم الصبر وثواب جزاء أهله؛ خفّ علينا طول الانتظار وإن طالت الأيّام وتمددت. ولو تراخى الإنسان لوهلةً لأتت النفسُ ووساوسها وإبليس قابعين عليه متربعين بقلبه؛ آخذين بأقلامٍ تسوّد القلبَ وتُمحي ما فيه من يقين إيمانه وأمل انتظاره؛ آسرين قلبه وعقله بالكآبة وضيق الصدر وكدر العيش. والحاصل: إن لكل إنسان -بفترةٍ من فترات حياته- جرعةً من الصبر هو متذوقها، فمن ذاق فاليتحمّل ويستطعم وإن أبدى الطعمُ شدّة المرارةِ على محيى وجهه.. شكرًا لمقالتك ولكل من يصبر ويتصبّر.

    ردحذف

إرسال تعليق